شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الأفكار الميتة والأفكار القاتلة

حين انفرط عقد حزب البعث في العراق وهوى صنم صدام، اتصلت بي أختي من الموصل فقالت لي إن الناس عندنا يقتلون البعثيين ويرمون جثثهم في دجلة. قلت لها ولكن هذا خطأ فنستبدل البعث بأسوأ منه، كمن ينتقل من السل إلى الإيدز وهو ما حصل، فخرج من رماد صدام ألف مصدوم. قالت: يا أخ لو تعلم كم سببوا لنا من الألم والحزن؟ قلت: وهذا هو الفرق، فيجب أن تمسكوا بهم وتقدموهم إلى القضاء. قالت إنهم سرطان خبيث ولقد قطع الرأس، ولكن انتشارات السرطان ما زالت تسممنا. نحن اليوم نعرف أن البعث فارق الروح إلى يوم البعث في العراق وسوريا وعدن، ولكن فروعه ناشطة في العالم العربي.

وفي مقابلة مع رفيق حزبي لبناني، قال إن الحزب لم يمر في وقت أفضل منه الآن. ومشكلة الحزبي أنه يضع على عينيه نظارة لونية بألوان شتى، هي خضراء للإخوان المسلمين، وحمراء للشيوعيين، وسوداء للبعثيين، مثل النظارات الشمسية الغامقة، طالما كان المشي في ظل الأنظمة الشمولية هو في صحراء حارقة.

قال الرفيق الحزبي من لبنان يومها إن الحزب لو سقط في العراق فلا يعني أن فكر الحزب انتهى، وهو ما يردده الشيوعيون؛ فيقولون إن ما مات لم تكن الشيوعية، والشيوعية حية ترزق، مثل حية الكوبرا في الهند والريف المصري، وهي قادمة لا محالة وهي قدر الجنس البشري وفقراء العالم، وهو يذكر بقصص جحا الشعبية.

وفي محطة فضائية خرج علينا رفيق حزبي بنظرية مفادها أن الاعتقالات في الأنظمة الشمولية دليل عافية العرب، فلولا روح التمرد والمقاومة ما حصلت الاعتقالات. وهذا يعني، حسب تنظير الرفيق الحزبي، الذي تحول لاحقا فأصبح ثوريا مع الثورة السورية، بعد أن كان مستشارا ثقافيا للأسد الأب في وزارة السخافة والإفساد القومي، قالها في برنامج «الاتجاه المعاكس»، وهذا يعني أن ألمانيا وكندا سيدتا الكسل والخمول، لعدم وجود اعتقالات فيهما. وكلامه هذا يذكر بالمجنون الذي سألوه عن الجسر: لِمَ صُنِعَ؟ قال: من أجل أن يمر النهر من تحته!

ويرى مالك بن نبي أن لكل قرية مقبرتها ولكل ثقافة مقبرة للأفكار، وهو يرى أن الأمم تقتل بنوعين من الأفكار: القاتلة والميتة. فأما القاتلة فهي المستوردة من الخارج ولا تناسب البيئة، كما في فكر حزب البعث القومي، للوسط الإسلامي الذي أهلك الحرث والنسل. والأفكار الميتة هي تلك الأفكار التي ماتت في الثقافة ولم تعد تعمل، مثل الجثة المتفسخة التي تنشر السموم، وفهمها أصعب لأنها من التراث، ونحن نحب التراث ونتمسك به. ولكن السكنى في بيوت قديمة لا يطيقها الناس، ولو حملت ذكرى الأجداد. كما أن الناس منذ فترة طويلة لم يعودوا يركبون الحمير والبغال، بل الطائرات. وكذلك لم يعد الاستنجاء والاستبراء بالحجارة، فيجب أن يحذفا من كتب الفقه.

ويمكن تشبيه عملية نقل الأفكار القاتلة أو التشبث بالأفكار الميتة، مثل عمليات نقل الدم. فأما (الأفكار القاتلة) فهي نقل الدم الحي مع الخطأ في الزمرة، فيقتل المريض مع حاجته إلى الدم. والغلط هنا أن الأفكار تعمل ضمن شروطها التاريخية، فإذا نقلت بغير شروطها قتلت، كما يقتل المريض النازف بالزمرة الغلط مع حاجته إليها. والفكر القومي في أوروبا عمل في يوم فأنشأ أقطارا عظيمة، مثل ألمانيا وفرنسا، ولكن ميشيل عفلق الشامي نقل الفكر الفاشي بعد مرور قرن عليه. وأما (الأفكار الميتة) فهي نقل الدم من الزمرة نفسها، ولكن بعد مضي فترة الصلاحية.

ونحن نعرف طبيا في مثل هذه الحالة أننا نحقن أوردة المريض بخثرات قاتلة في كل الشجرة الوعائية، فيموت المريض مع سلامة الزمرة. ففي الحالة الأولى هو دم حي مع اختلاف الزمرة، وهو في الحالة الثانية الزمرة نفسها مع فساد الدم بانتهاء الصلاحية. وهذا الذي يحصل اليوم بين فكر البعث وفكر ابن لادن، فأما ابن لادن فخطابه انتهت صلاحيته منذ فترة السلطان قلاوون الألفي، قبل ألف سنة.

وأما فكر البعث فهو توليفة خطيرة من الأفكار القاتلة والميتة، مثل الجثة المتفسخة المملوءة ببكتيريا في غاية الخطورة. فهي من طرف جثة (ميتة) وهي من طرف آخر تعج ببكتيريا حية وقاتلة. ولذا يجب على الأنظمة التي ما زالت تؤمن بفكر متخلف من هذا النوع أن تتخلص منه بسرعة كما في دفن الميت، وكان يجب منذ زمن مديد أن تعلن موعدا لجنازة حزب البعث للتشييع الرسمي، ولكن نبي الله سليمان عندما مات لم يخطر في بال الجن أنه مات، والذي لفت نظرهم إلى موته كانت حشرة لا أحد ينتبه إليها. وحزب البعث أصبح جثة منذ زمن طويل، واعترف بهذا العاقلون منهم، ولكن المستفيدين اللصوص ما زالوا يعيشون على الامتيازات على أمل أن يطول عمر هذه الجثة، كما حافظ الشيوعيون على جثة لينين.

وقديما كان الكهنة يوحون إلى الناس أن هبل حي، وأن مناة تضر وتنفع، وأن اللات والعزى تميت وتحيي. وحزب البعث والشيوعيون وأضرابهم وأمثالهم اليوم بيد كهنة آمون الجدد، يطلقون البخور الحزبي من كلمات القائد حتى تأتي دابة الأرض فيسقط الصنم، كما سقط في بغداد، ويكون له دوي عظيم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى