يونس جنوحي
إذا كنتم تزاولون مهنة الطب في فرنسا ولا تحملون الجنسية الفرنسية، فسوف تجدون أنفسكم في حُكم «العطارة» و«تقنيي» الأسواق الشعبية.
وهذا الأمر ليس نكتة، بل وضعا كارثيا يعيشه 1900 طبيب وطبيبة درسوا الطب في فرنسا وكانوا يزاولون المهنة إلى وقت قريب، لكنهم الآن صاروا في حكم الموقوفين بعد أن أوقفت الحكومة الفرنسية العمل بالنظام الاستثنائي الذي كانوا يستفيدون منه ما بين 2020 و2023، أي خلال فترة كورونا وما بعدها بقليل.
وبما أن هؤلاء الأطباء الذين تخرجوا من كليات الطب بفرنسا، لم يعودوا يحملون صفة «الطالب»، فإن تجديد وثائق إقامتهم فوق التراب الفرنسي صار أمرا مستحيلا، لأنهم لا يستطيعون الحصول على شهادة العمل في المستشفيات الفرنسية. وهذا الأمر يعيشه أطباء وطبيبات درسوا تخصصات معقدة في فرنسا مثل جراحة الأعصاب وجراحة العظام.
مزاولة الطب في فرنسا لأكثر من سنتين، بشكل قانوني تماما وبعد توفر كل الشروط الأكاديمية والخبرات المهنية والحصص التطبيقية، كلها لم تشفع لهؤلاء الخريجين، وهم أطباء الواقع، لكي يسووا وضعيتهم القانونية مع مصالح الهجرة الفرنسية.
«إنكار للجميل»، هو عنوان ما وقع بين الحكومة الفرنسية وهؤلاء الأطباء الذين لعبوا دورا كبيرا جدا أثناء مرحلة الطوارئ التي أعلنتها فرنسا قبل ثلاث سنوات من الآن. فهؤلاء الأطباء، كانوا وقتها قد أنهوا الدراسة الجامعية، ومنهم من أنهوا دراسة الطب ويحملون شهادات عليا من جامعات من خارج دول الاتحاد الأوروبي، وأدمجتهم وزارة الصحة الفرنسية لكي يعززوا صفوف الأطباء المزاولين في المستشفيات والمصحات الخاصة على حد سواء.
هؤلاء الأطباء كانوا في الصف الأول وأصيب أغلبهم بالفيروس قبل حتى أن يتحدد التطعيم المناسب لمواجهته، أي أنهم غامروا بحياتهم ووضعوها فوق المحك لكي يؤدوا رسالة مهنة الطب.
خدمة المجتمع الفرنسي في فترة الجائحة لم تشفع لهؤلاء الأطباء لكي يستمروا في مزاولة المهنة في نفس المستشفيات التي اشتغلوا فيها. وأوقفت عقودهم لأن السلطات لم تؤشر بالموافقة على تسوية وضعيتهم الإدارية بحكم أنهم أجانب والشهادات العلمية التي يتوفرون عليها لا تُعادل الشهادة الجامعية الفرنسية. حسب الإحصاءات التي صدرت في الصحافة الفرنسية فإن الأمر يتعلق بأربعة آلاف طبيب وطبيبة بعضهم تجاوزوا الأربعين، أي أنهم تجاوزوا مرحلة التخصص، وفوجئوا بأنهم لم يعد بإمكانهم مزاولة مهنة الطب في المستشفيات والمصحات الفرنسية.
هؤلاء الأطباء لم يعرضوا خدماتهم على أحد، وإنما الحكومة الفرنسية هي التي بادرت إلى طلب مساعدتهم في ظرف إنساني واستثنائي وعرضت عليهم العمل بعقود غير مفصلة. وهكذا فإن طبيبا جراحا، لا يحمل الجنسية الفرنسية، وجد نفسه يُجري العمليات المقعدة في قلب مستشفى باريسي بأجرة لا تتجاوز 1400 يورو شهريا وبعقد عمل يحمل فيه صفة «ممرض». وهذه لوحدها فضيحة مهنية وأخلاقية كبيرة.
ما هو الحل في نظر الفرنسيين؟ لا يعقل مثلا أن يستأمنك بلد بأكمله على حياة مواطنيه، ويرخص لك مؤقتا لكي تُزيل ورما من دماغ إنسان مريض أو تحمل مشرطا دقيقا لكي تفتح شريانا وتخيطه، ثم يقولون لك في النهاية إنك لست مؤهلا لمزاولة الطب في فرنسا بحكم أنك لست فرنسيا أو لا تحمل شهادة عليا فرنسية. إن الحكومة بهذه الخطوة سوف تُشجع هؤلاء الآلاف لكي يتجولوا في الشارع العام، ويعرضوا خدماتهم الطبية على المارة لكي يتمكنوا من العيش فوق تراب الجمهورية الخامسة، تماما على طريقة «العطار» الذي يعالج أمراض القرويين في مداشر المغرب قبل قرون خلت.