الأطباء الشهداء والشهداء غير الأطباء
بقلم: خالص جلبي
نسمع هذه الأيام عن جائحة الكورونا مع موت الأطباء فيها والممرضات، وهم في الصف الأول. والطبيب يحتاج إلى طب وتطبيب، ولكن يحدث وفي أعسر اللحظات، أنه يسقط في قاعة العمليات وقد توقف قلبه عن الخفقان! هكذا حدث لجراح في الستينات وهو يقطع بالمبضع في أحشاء المريض؛ فاحتاج إلى من يسعفه. سمعت خبره ونعيته إلى زملائه؛ فقد مات في الساحة التي خدم فيها.
كنت أقرأ في الحديث عن أنواع من الشهادة؛ عن الغريق والمبطون والمطعون؛ قلت ليس أعظم من ميتة صاحب المهنة وهو يؤدي رسالته حيث يعمل، ليس فقط المجاهد في ساحة الوغى، بل الجراح في قاعة العمليات، ومدرس الكهرباء وهو يُصعق بالتيار، كما روى لي أمير السوري في النماص عن معلمه في الحرفة، حين سألته عن أعظم ما مر معه؟ قال تفحم أمامنا وهو الذي كان يداعب الكهرباء مثل مروض الأسود في السيرك!
كذلك المهندس وهو يتفقد أغلاط البناء كما حدث معي، حين استدعيت أبو طه إلى الفيلا التي بنيتها في الجولان، قلت له: كنت تكرر علي أن أستدعيك في الأزمات، وها نحن في ورطة مع المقاول! جلس الرجل الساعات الطوال وهو يدقق في الحسابات، ثم قام إلى البناء ليتأكد منه، فسقط على باب الفيلا ومات في ساعة من نهار، رحمه الله فكان مثل الجراح الذي سقط في قاعة العمليات، وقد كتبت في رثائه ما يذكر بقصيدة أبي العلاء المعري عن موت صديقه. كتبته في مقالة (فلسفة الموت)، وليس أبياتا عن حمامة هدلت فلم يعرف أبكت أم غنت على فرع غصنها المياد؟
كنت قد بنيتها على أمل التقاعد فيها، فتحولت إلى مأوى يبيض فيها الحمام، وغسلت يدي من ديار البعث إلى يوم البعث. وأخيرا سمعت أن المخابرات السورية استولت عليها وحولتها إلى فرع لاعتقال الناس وتعذيبهم، وأنا أقول بنيتها للتقوى فأصبحت وكرا لذئاب البعث. وسبحان من يقلب الأمور وكيف تضحك الأقدار منا. وهو ما يذكرني أيضا بمعتقل المخابرات العامة في حي الحلبوني بدمشق، وكان المكان قصرا للشيخ تاج الدين الحسني، وهو أول رئيس جمهورية، ليتحول إلى فرع المخابرات العامة رقم 273 لتعذيب الناس وجلد أبشارهم.
وأذكر أنني مررت بجنب مقبرة الدحداح في الميدان، حيث فرع كراكون الشيخ حسن، فرأيته مغلقا وكان وكرا للتعذيب كنت أحد ضحاياه، فتمنيت أن أزوره كما يفعل سكان غوايانا الفرنسية ليتفرجوا على معتقلات نابليون الثالث، حيث تحول المكان إلى قاعدة إرسال الصواريخ للغلاف الجوي. أما في سوريا فقد وسعوا قاعدة السجون والمعتقلات، فأصبحت سوريا كلها سجنا هائلا مرعبا يضم مسكينا ويتيما وأسيرا. حتى يأذن الله بالفرج ولو بعد حين.
أفهم عن تخوف كبر السن عند الجراحين، ولكن دبغي عمل حتى أصبح 99 عاما، وهناك من يشيخ وهو في الأربعين. نحن هنا أمام السن الفسيولوجي والحقيقي، لذا وجب على رب العمل التفريق، ولكن المشافي الخاصة هدفها الربح فتقلب المعادلة.
بقي أمر واحد سرح فيه خيالي وهو عن المريض الذي بقي بطنه مفتوحا بعد سقوط الجراح في القاعة، هنا لا نريد أن نخسر اثنين وفي العادة يقفز أحد الجراحين فيتمم عمل الأول.
أسأل دوما طبيب الأسنان أنت تثقب في الأسنان وتعالج اللثة والنخر، فإذا نخرت سنك والتهبت لثتك فمن يداويك؟ الطبيب يحتاج إلى طبيب، وأعظم النكت إن صح التعبير أن يحتاج جراح الأوعية الدموية إلى من يسلك شرايينه أو يصنع أنورزما (أم دم) عنده، أو يوسع أو يستبدل شرايين قلبه كما حصل لشيخ جراحي الأوعية في أمريكا ميشيل دبغي، فقد دل من حوله وأرشدهم كيف يشقوه ويصلحوه، أو أفظع منه لجراح الصدر المدخن بعد أن أصيب بسرطان في الرئة، فعرض صورته الشعاعية على زميله استشاري الأشعة بدون ذكر اسم المريض قائلا: ما تشخيصك؟ أجاب: أنت جراح الصدر، وتعرف أنه سرطان منتشر! تابع جراح الصدر: إنه صدري ولا جراحة له! فقد انتشر وتعمم! ليتني تركت التدخين منذ زمن بعيد. لم يرجع إلى بيته وبقي في المشفى ينتظر الموت بصمت وعزلة وخنقة.
بعد أن كتبت ما كتبت نعي إلي موت زميلي الدكتور تميم التكريتي، وكان معي في رحلة التخصص في ألمانيا، ومن التناقضات أنه كان يشرف على المرضى في العناية المشددة فينقلهم إلى شاطئ السلامة، كما نعي إلي زميلي الدكتور ماهر الخردجي وكان أخصائي في الأمراض الكلوية، وكانت مهمته مساعدة مرضى الفشل الكلوي في الغسيل وأعمارهم تقصر مع الغسيل، ولكنه سبقهم إلى دار الحق. ومن قبل عرفت عن موت أناس شتى، مثل صديقي الدكتور خالد أبو غيدا وأبو إقبال الحاج خالد حسون، والأستاذ أبو توفيق لطفي علوان، الفهيم بالرياضيات، رحم الله الجميع.
أكتب أنا الآن من مونتريال وأنا شخصيا تعرضت لمرض عجيب حدد مسافة المشي عندي أو الوقوف، لأكتشف أنني مصاب بتضيق القناة الشوكية، وكانت الطريقة الوحيدة تقريبا حتى أزيل تنميل القدمين أو حرقة الساقين هو الجلوس لدقائق، ثم تفاقم حتى أصبحت أنا الجراح تحت مبضع الجراحين وكان أشد خوفي من الورم، كما روى المسيري المصري في مذكراته أو إدوارد سعيد، اللذان عضهما الورم فما أبقى. أنا حاليا أدعو مع كل خطوة للدكتور المغربي عبد الصمد الوهابي والمخدر حاتم الإسماعيلي عما قدماه لي، حين أطلقا قدمي، بعد أن أصبحت رهن اعتقال بدني فأطلقا حريتي.