الأسرار غير المروية في مذكرات امحمد بوستة…عن الاستقلال والانتخابات والحرب مع البصر
يونس جنوحي
«خلال سنة 1960 دخلنا مرحلة أخرى، إذ تمت إقالة حكومة عبد الله إبراهيم يوم 21 ماي، وفي الواحد والثلاثين منه نظمت أول انتخابات بلدية بالمغرب المستقل، وقد تقدمت بملف ترشيحي لهذه الانتخابات بمدينة مراكش. كانت انتخابات مثالية من حيث أجواء النزاهة والمصداقية التي طبعتها، ولم تتدخل الإدارة فيها بصفة مطلقة. كما لم يشبها أي تزوير. خسر مرشحو حزب الاستقلال في مدن كثيرة وكبيرة، مثل الدار البيضاء وآسفي والرباط. وكان الصراع في هذه الانتخابات محتدما ومقتصرا على كتلتين سياسيتين هما حزب الاستقلال والحركة الجديدة التي انفصلت عنه»..
كانت هذه أجواء وصول امحمد بوستة إلى المجلس البلدي لمدينة مراكش سنة 1960.
أما عن صراعه مع إدريس البصري فقد اعترف بوستة أن حربه مع وزير الداخلية كانت بسبب تزوير الانتخابات حتى أنه رفض تشكيل حكومة كلفه الملك الراحل الحسن الثاني بتشكيلها، واعتذر بسبب وجود إدريس البصري في وزارة الداخلية كشرط على تشكيلها. ووقتها صدر البلاغ الشهير حيث ربط كل الذين سمعوه بين كلمة «المقدسات» التي وردت فيه وفهموا جميعا أن المقصود بها هو إدريس البصري.
بوستة: قررت الدولة مسبقا أن أفوز بانتخابات 1993
يحكي امحمد بوستة أن الملك الراحل الحسن الثاني استدعاه في آخر أيام شهر دجنبر مباشرة بعد تدخل له في البرلمان للرد على عرض كان قد ألقاه الوزير الأول، وطلب منه شخصيا أن يشكل حكومة.
يقول بوستة في هذه المذكرات إن الكثيرين لاموه على عدم قبول العرض الملكي لتشكيل الحكومة. وقد رد عليهم بوستة بالقول إنه تعلم من الملك الراحل الحسن الثاني أن السياسة مثل الفلاحة، للحصول على نتيجة جيدة يجب احترام دورة الفصول. وهي إشارة إلى أن بوستة كان مقتنعا في رأيه الشخصي أنه لا يجب أن يحرق المراحل، خصوصا أن الذين لاموه أخبروه أنه كان يتعين عليه قبول العرض أولا ثم سن الإصلاحات في ما بعدُ.
ثم جاءت الأزمة الشهيرة بين امحمد بوستة وإدريس البصري، والتي ألفت عنها روايات كثيرة. ويرفع بوستة اللبس في هذه المذكرات بالقول: «بعد اللقاء مع الملك، والذي أخبرته فيه أنني اعتذرت عن تحمل مسؤولية الوزارة الأولى وتشكيل الحكومة، اتصل بي أحمد رضا اكديرة، مستشار الملك، بحضور محمد اليازغي ومحمد بن سعيد آيت إيدر، وأخبرني بـ: «أن الملك قرر وقف المشاورات ولهذه الأسباب فإن بلاغا رسميا سيصدر في الساعات المقبلة، سأقرؤه عليكم الآن قبل إذاعته ونشره رسميا».
يقول بوستة إن سبب الرفض كان فرض إدريس البصري نفسه في وزارة الداخلية. وهكذا فقد بدأ رضا اكديرة، مستشار الملك الراحل الحسن الثاني، في قراءة نص البلاغ الذي أصدره الديوان الملكي في الموضوع. ويحكي بوستة: «جاء في البلاغ أن الموقف الذي عبرنا عنه بشأن العرض الملكي يعد مساسا بالمقدسات. وعندما نطق أحمد رضا اكديرة بكلمة «Sacre» –لأن البلاغ كان مكتوبا باللغة الفرنسية- قاطعته قائلا: «ماذا تعني بكلمة «مقدسات»؟! المقدسات التي نعرف هي الله والدين والوطن، واحترامنا للنظام الملكي، وفي نظرنا لم يتم المساس بالنظام الملكي في وقت من الأوقات، أم تريدون أن تجعلوا من إدريس البصري جزءا من مقدسات البلاد؟ فهذا أمر لا يقبله ذو عقل سليم».
لكنه ظل متشبثا بفكرته وأذيع البلاغ ونشر بتلك الصيغة، وقد اتضح جليا أنهم ندموا في ما بعد على صيغة هذا البلاغ وتبين لهم، كذلك، أن موقفنا كان هو الصواب. لكن رغم كل ذلك ورغم عدم مشاركتنا في الحكومة، واصلنا عملنا السياسي داخل الحزب وداخل البرلمان.
أما في ما يخص الانتخابات. فقد حكى بوستة: «في انتخابات يونيو 1993 مثلا، قررت وزارة الداخلية، مسبقا، أن أفوز في هذه الانتخابات، ومسألة الفوز كانت محسومة لدي، فقد كنت على يقين تام بأن الناخبين بمراكش التي أمثلها سيجددون الثقة في شخصي المتواضع. وكما حدث سابقا في جميع الاستحقاقات، باشرت حملتي الانتخابية وكان يؤازرني فيها ثلاثة من الإخوان الاستقلاليين. وكانت تمر في ظروف عادية، إلى أن جاء أحد أعوان السلطـة (مقدم) فسلم لكل واحد من هؤلاء الإخوان، وهم حاد لزرق وفاخر أبو الهدى وثابت، حوالي 300 بطاقة انتخابية تمثل أصواتا لصالحي. تسلم الأخوان الأول والثاني تلك البطاقات. أما ثابت فرفض تسلمها مخافة أن يغضبني الأمر، وجاء حاد لزرق وفاخر أبو الهدى فسلماني البطاقات وقالا لي: «هذه وزارة الداخلية تدعمك بواسطة أعوانها». وكان لنا مساء ذلك اليوم لقاء مع الجماهير، في إطار الحملة الانتخابية بإحدى القاعات السينمائية بحى القصبة بمراكش. صعدت إلى المنصة من أجل إلقاء خطابي التواصلي، وانتهزت هذه الفرصة لأرمي بتلك البطاقات الانتخابية في فضاء القاعة أمام اندهاش الجمهور الحاضر. وقلت: «هذه بطاقات تريد وزارة الداخلية أن تدعمني بها لكي أفوز في الانتخابات، انظروا إلى هذه المهزلة… والآن، أنتم الوحيدون الذين تملكون كلمة الفصل في أن أمثلكم أم لا؟».
المساري أقنع بوستة بكتابة المذكرات
لم يكن يخفى على أحد، بمن فيهم وزراء الخارجية العرب خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات، أن الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة، كان بمثابة علبة سوداء للملك الراحل الحسن الثاني.
ورغم أنه لم يكن دائما في قلب الحكومات، بل كان في صف المعارضة أحيانا رغم قربه من القصر، إلا أنه كان دائم الحضور إلى جانب الملك الراحل الحسن الثاني، خصوصا خلال القمم العربية واللقاءات مع زعماء دول إسلامية وأجانب.
يروي الصحافي محمد الضو السراج، في حديث مع «الأخبار»، أنه كان يسعى خلف امحمد بوستة خلال السنوات الأخيرة من حياته عندما توارى عن الأضواء، وبحكم المعرفة المسبقة بينهما، حاول السراج أن يقنع امحمد بوستة لكي يسجل معه مذكراته بالصوت والصورة، لكن الأمين العام السابق لحزب الاستقلال بعد وفاة زعيمه التاريخي علال الفاسي، كان يعتذر بلباقة في كل مناسبة.
وهنا فكر محمد الضو السراج في طريقة لإقناع بوستة ببداية التسجيل، ولجأ إلى وساطة الوزير السابق محمد العربي المساري الذي كانت علاقته بامحمد بوستة وطيدة جدا.
بحضور المساري، قال بوستة لمحمد السراج بلهجة مراكشية لا تُخطئها الأذن إنه سوف يسجل معه المذكرات كما يريد لكن شريطة أن يحولها إلى كتاب مطبوع. وهكذا كانت وصية بوستة ضمنية وكأنه يوصي أن يصدر كتاب مذكراته، وهو ما حدث فعلا بعد وفاته. وكان المساري شاهدا على الوعد الذي قدمه السراج لمحمد بوستة، والذي كان بمثابة شرط أساسي لانخراطه في عملية التوثيق لمسار حياته الحافل بالأحداث الوقائع.
اشتغل محمد الضو السراج مع امحمد بوستة، الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، على ساعات طويلة من التسجيل امتدت لأشهر، تطرق فيها لمحطات مهمة من حياته خلال مرحلة شبابه وبداية التحاقه بالعمل الوطني، ثم انضمامه إلى حزب الاستقلال ووصوله بسرعة إلى الصف الأول، حيث ذهب مع وفد حزب الاستقلال إلى محادثات «إكس ليبان» التاريخية، وعاش تفاصيلها عن قرب، كما مر بمحطات كثيرة بعد الاستقلال وكان الملك الراحل محمد الخامس يعرفه بحكم نشاطه الدائم وحضوره مع قادة الحزب في جل اللقاءات التي جمعتهم بالملك الراحل خصوصا بعد المنفى. وهكذا أصبح امحمد بوستة من كبار السياسيين المغاربة في مرحلة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، إذ كان يرافق علال الفاسي في أغلب مهامه الدبلوماسية التي كلفه بها الملك الراحل الحسن الثاني، وكان معه في آخر مهمة له ببوخارست، لكي يتم الإجماع على تعيين امحمد بوستة أمينا عاما لحزب الاستقلال سنة 1974 بعد وفاة علال الفاسي. وهكذا عاش بوستة محطات حرجة في مغرب السبعينيات بدءا بالانقلابات ضد الملك الحسن الثاني وصولا إلى التضييق على المعارضة، حيث كان بوستة من مهندسي ما كان يعرف بالكتلة التي تشكلت من الأحزاب الوطنية البارزة.
اشتغل الراحل على ملف الصحراء المغربية، حيث كان من بين أكبر العارفين بكواليس الصراع في الصحراء حيث عاش شخصيا أحداثا مهمة في مسار استرجاع الأقاليم الجنوبية من الاستعمار الإسباني. وقد كانت سنوات السبعينيات بالنسبة إليه، فترة للتركيز على قضية الصحراء في الملتقيات الدولية.
عُرف بوستة أيضا بمعارضته الكبيرة لإدريس البصري إذ كان من أشهر المعترضين على تشكيل حكومة سنة 1993 حيث رفض المشاركة فيها باسم حزب الاستقلال بوجود إدريس البصري في وزارة الداخلية.
وعندما غادر امحمد بوستة الحياة السياسية كان بيته مزارا لكل من تملكهم الفضول لمعرفة كواليس مراحل مهمة من تاريخ المغرب، ولو أن الراحل كان معروفا بتحفظه الكبير عن الخوض في التفاصيل أمام من لا يعرفهم. وهنا تأتي قوة هذه المذكرات: «امحمد بوستة.. مذكرات في الحياة والسياسة»، إذ أن بوستة باح فيها بأسرار من حياته اختار لها عنوان: «الوطن أولا»، وكأن الخلافات التي قد تثيرها المذكرات ليس فيها مكان للشخصي أمام المصلحة العليا للوطن.