الأسئلة المحرجة والمربكة والمزعجة
بقلم: خالص جلبي
تقدم الطالب بسؤاله بشيء من التحدي والزهو: «أنتم تقولون إن عمر الإنسان محدد بقدر لا يضل ولا يزيغ، ولكن العلم الحديث استطاع أن يتدخل فيزيد متوسط عمر الإنسان، فكيف نجمع بين المتناقضتين؟».
كان السؤال محرجا من طالب كردي يساري الاتجاه، وتطلب مداخلة صعبة، من مدرس تربية إسلامية غير مسلح بالثقافة المعاصرة، وكنت يومها طالبا في الثانوية، فشكل عندي هذا السؤال التحدي رقم واحد لفك لغزه.
وأتذكر جيدا عندما دخلنا الجامعة، حين تقدم أحد زملاء مقاعد الدراسة وكان شابا فلسطينيا، قصير القامة، مكتنز اللحم، وفي عينيه سخرية، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، تقدم بسؤال معقد للإجابة عنه وكل ظنه أنه لن يفلت أحد من التناقض. قال: «هل يستطيع ربك أن يخلق حجرا لا يستطيع حمله؟».
بدأنا نقلب أوجه الإجابة، لأن كل إجابة ليست إجابة، ولا تقدم الحل عن الأحجية؛ فالإجابة بنعم أو لا توصل إلى طريق مسدود، إن قلت نعم فهو عاجز وإن قلت لا يستطيع فهو عاجز! وبدأنا نفكر في طريق عقلي مختلف وكانت الهزة رقم اثنين.
وعندما درسنا مادة الفيزيولوجيا (علم الغرائز physiology) لفتت نظري فقرة، عند استعراض أثر الماء على الحياة، فاستشهد الأستاذ (شفيق البابا) بنصف آية عندما قال: يمثل الماء أصل الحياة، كما جاء في القرآن «وجعلنا من الماء كل شيء حي»، ولكنه لم يتابع الآية حتى منتهاها، لأن خاتمتها كلمتان «أفلا يؤمنون». فشكلت عندي هذه القضية التحدي رقم ثلاثة؛ فعكفت على دراسة هذه العلاقة في الآية مدة سبع سنوات كاملة، لأضع أول كتاب لي قبل نصف قرن بعنوان «الطب محراب للإيمان»، وهو ما حاولنا نشر بعض أفكاره في جريدة «الأخبار» المغربية في رمضان 2020 وجائحة كورونا، جلبا للإيمان وتهدئة للخواطر في جو اجتياح المرض. وكان ذلك في محاولة للاقتراب من فهم معادلة العلم ـ الإيمان، كما فعل آينشتاين في محاولة فهم الطاقة والمادة كوجهين لحقيقة واحدة. ولكن عندنا ثلاثة استعصاءات فكرية. وفي تقديري إذا كانت معادلة آينشتاين قد ساهمت في الوجود الفيزيائي، في طرح الحلول للمشاكل الكونية الكبرى؛ فإن معادلة (الإيمان ـ العلم) سوف تنهي الصراع الإنساني إلى حد كبير، وتصل إلى توحيد العقل والضمير في مركب واحد.
مقدمة الآية التي اعتمدها كتاب الفيزيولوجيا كانت قضية علمية، ولكن نهايتها فلسفية، وهذا شق الطريق لي لتشييد البناء الفلسفي، وهي قضية سنعرج عليها في ما بعد، في مجموعة من القضايا لفهمها مثل فكرة (أسلمة العلوم)، وفكرة (الإعجاز العلمي في القرآن)، وفكرة (المعجزة والسنة)، وفكرة (القانون والصدفة والتسخير).
السؤال الأول حتى أمسكت بالإجابة المقنعة عنه، والتي لم يتقدم الفكر التقليدي في حلها كثيرا، استغرقت مني أكثر من 10 سنوات، ولكنها أدخلتني إلى فهم فكرة العلم. والإشكالية الثانية علمتني منهجية العلم وتنظيم الأفكار، وأخذت مني 20 عاما، في زحزحة موضع النقاش، والانتباه إلى الفخاخ الفكرية، وترتيب الإجابة الصحيحة لأسئلة طرحت بالأصل على شكل سليم. وهذا يذكرني بما فعله الفيلسوف مع تلاميذه، عندما قلب حجرا من سطح الأرض، ثم طلب من تلاميذه تعليل برودة السطح، والمفروض أن يكون ساخنا، لأنه كان تحت أشعة الشمس الحارقة.
والتحدي الثالث قربني من وضع قواعد أولى لتأسيس فكر فلسفي إسلامي معاصر، أو هكذا أزعم، وأخذ جهدا استغرق 30 عاما، ما زال يتطور كل يوم حتى كتابة هذه الأسطر. وأهم ما وصلت إليه أن معرفة الحقيقة مرة واحدة لا تكفي.
يزورني أحيانا بعض الأصدقاء القدامى، الذين كنا نعرف بعضنا قبل ربع قرن من الزمن، فأشعر أن هناك تحديين مصيريين أمام الإنسان حتى يتابع نموه الفكري هما فكرتا التقدم والحركة. وهناك بعض الزملاء الذين يعاصرون بعض الأفكار، فيقعوا في وهم أنهم طوقوا وأمسكوا بها، ولكن الذي يحدث كما يقول آينشتاين إن معرفة الحقيقة مرة واحدة لا تكفي، بل لابد لها من الصقل الدائم، مثل تمثال الرخام الموجود في الصحراء، تهدده عواصف الرمل بالدفن في كل لحظة، والأيدي النشيطة التي لا تعرف الكلل، والتي تمسح عنه الرمال المتساقطة باستمرار، هي التي تحافظ على بهائه ملتمعا تحت ضوء الشمس.
بل إن الأفكار فيها أكثر من طبيعة فيزياء آينشتاين، فالقرآن اعتبر الفكرة كائنا حيا «ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة»، والكائن الحي يمتاز بمجموعة من الصفات أهمها الحركة والتكاثر، وكذلك الأفكار فهي مثل الإنسان تحافظ على سمتها العامة، ولكنها تكبر مع تقدم الزمن، باستثناء أنها لا تعرف الهرم أو الموت، ما لم تكن فكرة خبيثة «اجتثت من فوق الأرض». لذا يجب أن يسيطر علينا تفاؤل، مفاده أن الفكرة الطيبة تبحث عن تربتها الصالحة حتى تنمو فيها وتزدهر ولو بعد حين، ولكن علاقة الأشخاص بالأفكار تأخذ منحى مختلفا، فالذي يستسلم لوهم أنه عرف الأفكار وأمسك بها، يصاب بالملل من صاحب الأفكار وهو يعرض بضاعته أمامه، فيردد هذه أساطير الأولين، ولكنه بعد فترة تتبخر وتنكمش الأفكار الحيوية التي كانت بحوزته، فإذا جاء ليسمع الأفكار الجديدة، التي هي في حالة ديناميكية متطورة، قد يشعر أنه فاته شوط كبير يجب أن يلحق به، وقد لا يشعر بهذا، فتتوقف الحركة الفكرية عنده. وهو قانون خفي، أخفى من دبيب النمل في الليلة المظلمة على صفاة سوداء، وهو مصير شبه مرسوم لكثير ممن تأتيه لحظة أرخميدس في الأفكار فيتوهج دماغه، وينشط لحياة الفكر والعلم، ولكنه سرعان ما ينكس ويعود إلى حياة الدواب، التي وصفها القرآن، أنهم يأكلون ويتمتعون كما تفعل الأنعام.