خالد الشرقاوي السموني
بعد الإطاحة بنظام القذافي في عام 2011، حصلت تداعيات وتأثيرات على الصعيد المحلي والإقليمي، لم تكن متوقعة لدى من خططوا لإسقاط النظام. انقسمت ليبيا بين العشائر والفصائل والميليشيات والجماعات الجهادية، واشتعلت الحروب الأهلية المعقدة التي لم تنته لحد الآن، زاد من حدتها ظهور رجل النظام القديم المارشال المتقاعد خليفة حفتر، ليقود عملية عسكرية بهدف الإطاحة بحكومة فايز السراج، حكومة الوفاق الوطني، بإيعاز من قوى داخلية وأجنبية.
فمنذ عام 2011، أصبحت ليبيا بالفعل مصدر قلق للمجتمع الدولي، بسبب التحديات الأمنية والاقتصادية المتعددة التي تفرضها على شمال إفريقيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، وأيضا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تدهورت بليبيا، من جراء عدم الاستقرار والفوضى في البلاد، مع انتشار الأسلحة لدى أفراد الشعب.
فضلا عن ذلك، فإن الحرب بالوكالة في ليبيا التي تخوضها دول أجنبية، زادت من تعميق الأزمة عوض حلها، وانتشار فوضى حقيقية مواتية لحدوث تهديدات لجميع دول المنطقة، بسبب تدخل عدة أطراف الإمارات العربية المتحدة، مصر، روسيا، تركيا واليونان. إنها حملة استعمارية جديدة للسيطرة على موارد النفط والغاز، خاصة أن ليبيا غنية بموارد الطاقة وتحتل موقعا استراتيجيا يثير مطامع هذه الدول.
اتفاق الصخيرات (المغرب)
في دجنبر 2015، وقع ممثلو الفصائل المتنافسة في ليبيا على ميثاق المصالحة الليبية في الصخيرات (المغرب)، تأسست على إثره حكومة الوفاق الوطني (GNA)، المعترف بها من قبل مجلس الأمن الدولي لدى الأمم المتحدة.
فقد لعب المغرب آنذاك دورا رائدا في دعم مسلسل المفاوضات الليبية وتقريب وجهات النظر، لإنهاء الخلافات بين الأطراف الليبية المتصارعة. وهذا الدور المتقدم الذي قام به المغرب من خلال سياسته الخارجية، يندرج في إطار التزامه بالحفاظ على مبدأي السلم والأمن بالمنطقة العربية، وحتى على الصعيد الدولي، كما أن سياسته في مجال مكافحة الإرهاب تجعله يعي كل الوعي لقطع الطريق أمام التنظيمات الإرهابية للامتداد في شمال إفريقيا.
فضلا عن ذلك، فإن المغرب اكتسب مرجعية دولية في هذا النوع من المبادرات السلمية الرامية إلى فض النزاعات، خاصة في عدد من الدول الإفريقية، إضافة إلى الثقة في مؤسسات المغرب وتجربته المستقرة وعلاقة المغرب بشخصيات ليبية مؤثرة، وامتداداته ذات الطبيعة الاجتماعية والدينية داخل ليبيا، والعلاقات التاريخية والإنسانية القوية التي تربطه مع الشعب الليبي، مما يجعله أن يكون مؤهلا أكثر كي يلعب دورا محوريا في هذا الملف، وتحقيق الاستقرار ووحدة البلدان المغاربية. والدليل على ذلك، الدور المغربي في دفع الفرقاء السياسيين للوصول إلى اتفاق تاريخي، ثم محاولة إجهاضه كما سنرى في ما بعد.
ففي 15 دجنبر 2015، وقعت وفود عن المؤتمر الوطني العام بطرابلس ومجلس النواب المنعقد في طبرق، شرقي البلاد، والنواب المقاطعين لجلسات هذا المجلس، إضافة إلى وفد عن المستقلين، وبحضور المبعوث الأممي إلى ليبيا «برناردينو ليون»، على اتفاق يقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة، ومجلس أعلى للإدارة المحلية، وهيئة لإعادة الإعمار وأخرى لصياغة الدستور، ومجلس الدفاع والأمن. وهذا الاتفاق تم بإشراف أممي، حيث سبق لمجلس الأمن الدولي التأكيد على أنه يبقى الإطار الوحيد القابل للاستمرار لوضع حد للأزمة السياسية في ليبيا، ودعا إلى الإسراع في العملية السياسية، حتى تخرج البلاد من أزمتها في انتظار إجراء انتخابات.
أطراف داخلية وأجنبية تجهض الاتفاق
على الرغم من أن حكومة الوفاق الوطني حصلت على اعتراف دولي، باعتبارها الحكومة الشرعية لليبيا، لكن برلمان طبرق، في المنطقة الشرقية لليبيا، والمتحالف مع قوات حفتر، رفض الموافقة عليها، وبالتالي انقسمت ليبيا إلى حكومتين: حكومة الوفاق الوطني يرأسها فايز السراج، وحكومة برلمان طبرق المساندة لحفتر، إضافة إلى انتشار مراكز القوة الجديدة التي تنتشر عبر المناطق مثل القبائل والعشائر والمجالس البلدية، مما زاد في تعقيد مفاوضات السلام، ودخلت ليبيا في أزمة كبيرة بسبب استمرار الحرب واستبعاد الحل السياسي.
فقوات الفريق خليفة حفتر، الرافض لاتفاق الصخيرات والمدعوم من قبل بعض الدول العربية، ذات الأهداف الجيو-الاستراتيجية بالمنطقة، خاصة الإمارات العربية ومصر، تمكنت في البداية من إخراج خصومها من بنغازي والاستيلاء على جزء كبير من «الهلال النفطي» في خليج سرت، مع إنتاجه من النفط والغاز، ومنشآت تكرير وتصدير النفط، وبدأت تزحف للسيطرة على العاصمة.
هذا التصعيد العسكري من جانب قوات حفتر أثار قلقا دوليا من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بليبيا، التي تعيش انقسامات حادة. فكل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وتركيا سارعت إلى التعبير عن قلقها البالغ من التصعيد العسكري في ليبيا. كما رخص البرلمان التركي للرئيس أردوغان بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، لحماية حكومة الوفاق من السقوط، سيما بعد ملاحظة الدعم الخارجي القوي لحفتر.
فالدعم الذي تقدمه كل من مصر، والإمارات العربية المتحدة وروسيا للجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، أدى إلى تعميق الأزمة السياسية، وإحداث المزيد من الانقسامات بين المكونات السياسية في ليبيا، ناهيك عن أن تعدد المبادرات حول الأزمة الراهنة في ليبيا، سواء من الداخل أو الخارج، لن يوحد الجهود الدولية الرامية إلى إيجاد تسوية للأزمة.
مؤتمر برلين وفشل وقف إطلاق النار
بعد محاولة التخلي عن مشروع المصالحة المنبثق عن اتفاق الصخيرات لسنة 2015، والذي حاولت مع الأسف إفشاله بعض الدول الأجنبية، وعلى الخصوص العربية، تم عقد مؤتمر السلام الخاص بليبيا في برلين بألمانيا، في شهر يناير من هذا العام، برعاية من الأمم المتحدة وفي إطار المساعي الدولية للتوصل لوقف دائم لإطلاق النار، ووقف حد للاقتتال الدائر في ليبيا، بين قوات حفتر المتمركزة في شرق ليبيا، وحكومة الوفاق ومقرها طرابلس. وشارك فيه طرفا النزاع القائم، وهما رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، وخصمه المشير خليفة حفتر، إلى جانب عدة دول ومنظمات دولية.
ومن بين الدول الحاضرة في المؤتمر تركيا ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا والصين، أما الدول الأوربية فتحضر فرنسا وبريطانيا (بلدان دائما العضوية بمجلس الأمن) وألمانيا باعتبارها الدولة المنظمة، بالإضافة إلى إيطاليا. ومن الدول المجاورة لليبيا تحضر الجزائر، كما تحضر كل من مصر والإمارات الداعمتين لحفتر. وعلى المستوى الاتحاد الإفريقي تحضر الكونغو.
والملاحظ، أن الدعوة لم توجه إلى المغرب وتونس للمشاركة في المؤتمر، رغم دورهما الرئيسي في حل الأزمة بليبيا، خصوصا المغرب الذي سبق له الإشراف على اتفاق الصخيرات، وكان من أول الموقعين على إعلان مشترك لدعم خطوة تشكيل حكومة وفاق وطني في ليبيا، ستظل السبيل الوحيد لتحقيق المهمة المتمثلة في إقرار سلطة شرعية، واستعادة الاستقرار والحفاظ على وحدة البلاد.
وكان يأمل الكثير من المتتبعين على الصعيد الدولي في أن ينجح الفرقاء في إنهاء حالة الحرب والصراع خلال مؤتمر برلين. لكن استبعاد اتفاق الصخيرات كمرجعية لحل الأزمة بليبيا، وفرض شروط جديدة من قبل الدول أجنبية دون حصول اتفاق موقع من قبل أطراف النزاع، فضلا عن طموح اللواء حفتر لتحقيق الانتصار، جعل هذا الأخير لم يمتثل لتوصيات مؤتمر برلين وعلى رأسها وقف إطلاق النار، فكانت أطماعه كبيرة للاستيلاء على كل المناطق الليبية، بعدما صار يقترب من العاصمة طرابلس. كما لم تتوقف الدول الداعمة له من تسليحه. وفي المقابل تدخلت تركيا لدعم حكومة الوفاق عسكريا، وبالتالي فشل مؤتمر برلين وبدأت حرب جديدة بالوكالة.
الحرب بالوكالة في ليبيا وفشل المجتمع الدولي
تصاعدت شدة الحرب بالوكالة في ليبيا. فخليفة حفتر يدير شرق ليبيا بمساعدة الجيش الوطني الليبي، وتدعمه بشكل أساسي الإمارات ومصر وروسيا، كما أنه يتلقى الدعم من فرنسا والمملكة العربية السعودية واليونان بطرق غير مباشرة. أما حكومة الوفاق الوطني بزعامة فايز السراج في طرابلس، فهي مدعومة من تركيا بشكل أساسي، وقطر بطريقة غير مباشرة.
أمام الأزمة الليبية المعقدة، نلاحظ أن مجلس الأمن الدولي فشل في الضغط على الأطراف الأجنبية لوقف إمداد الأطراف المتحاربة في ليبيا بالأسلحة، خاصة الأسلحة المتطورة القادمة من روسيا إلى ليبيا لدعم قوات حفتر، ووقف إطلاق النار والعودة إلى العملية السياسية عن طريق المفاوضات. والنتيجة هي استمرار الحرب بالوكالة، واستعراض الطائرات بدون طيار في أجواء ليبيا، وقوى إقليمية تخوض هذه الحرب أمام فشل دور مجلس الأمن الدولي.
ليبيا تعيش حربا قذرة بالوكالة وهناك أطماع أجنبية في مواردها من النفط والغاز، فضلا عن موقعها الاستراتيجي. ثم إن استمرار الحرب من شأنه أن يلحق أضرارا وخيمة بالبلاد على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقد تمتد إلى دول الجوار.
ولذلك، كان يجب على مجلس الأمن، في إطار اختصاصاته بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، أن يتدخل لإجبار الأطراف المتحاربة على وقف إطلاق النار، والتفاوض من أجل حل سياسي توافقي سيختاره الليبيون تحت قيادة الأمم المتحدة، وإنشاء دولة مدنية تستند على دستور يعكس الإرادة الشعبية الليبية، لأن التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا سيؤدي إلى زيادة التوتر والدمار، وتقسيم البلاد إلى فصائل متناحرة في ظل حرب شاملة قد تستمر.
فلم يعد هناك مبرر أن يبقى المجتمع الدولي متفرجا أمام حرب مدمرة، قد تؤدي إلى كوارث إنسانية من شأنها أن تمتد إلى دول الجوار.
تراجع قوات حفتر وتكتيك العودة إلى الحوار من جديد
يوم 18 ماي من هذا العام، كان تاريخا مفصليا في الأزمة الليبية، عندما استولت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس على قاعدة جوية استراتيجية «الوطية» التي يسيطر عليها حفتر، وهي معقل مهم للجيش الوطني الليبي وقاعدته الجوية الرئيسية الوحيدة بالقرب من طرابلس، كما دمرت العديد من أنظمة الدفاع الجوي الروسي «بانتسير»، بواسطة طائرات بدون طيار تركية، شكل ذلك ضربة قوية لحفتر لفشله في محاولة السيطرة على طرابلس، وتراجع قواته إلى الوراء.
وبعد سقوط الوطية في أيدي قوات حكومة الوفاق الوطني الليبية، سقطت بعدها مدينة ترهونة، آخر معقل لقوات حفتر في الغرب، كما واصلت قوات حكومة الوفاق تقدمها نحو مدينة سرت الاستراتيجية للوصول إلى شرق البلاد والمنشآت النفطية الرئيسية، منطقة «الهلال النفطي».
وقد شكل تراجع قوات الخليفة حفتر، تحولا في ميزان القوى بين روسيا وتركيا واليونان ودول الخليج، وفشلت الحسابات الاستراتيجية للإمارات ومصر.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة بدت من قبل غير متحمسة للعب دور قيادي في ليبيا، إلا أنه في الأيام الأخيرة لوحظ تحرك أمريكي، حيث جرى اتصال بين وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، وفايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني، من جهة، واتصال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس التركي رجب أردوغان، من جهة أخرى، لمناقشة تطورات الأزمة بليبيا، خصوصا بعدما استشعرت أمريكا الخطر الروسي بالمنطقة، عندما قامت روسيا أخيرا بإمداد حفتر بطائرات متطورة الصنع.
وجدير بالإشارة إلى أن دولة مصر تقدمت أخيرا بمبادرة سميت «إعلان القاهرة»، تدعو إلى احترام كافة الجهود والمبادرات، من خلال وقف إطلاق النار. هذه المبادرة دعمتها كل من الإمارات والسعودية والأردن والبحرين وروسيا وجنوب إفريقيا، وبعض الدول الأوربية، وقوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) بقيادة خليفة حفتر. من جانب آخر، رفضتها تركيا وقوات حكومة الوفاق الوطني، كما قوبلت إما بالرفض أو التجاهل من طرف الجزائر وتونس والمغرب.
هل سيعود أطراف النزاع إلى اتفاق الصخيرات؟
إن الوضع في البلاد لم يعد يحتمل، وليبيا الآن تتجاذبها عدة أطراف إقليمية ودولية، لها أطماع اقتصادية وأهداف استراتيجية. ثم إن الشعب الليبي يتطلع الى دولة استقرار وأمن وتنمية وقيادة رشيدة تجنبه ويلات الحروب، التي قد تستفيد منها دول أجنبية، وتنظيمات متطرفة قد تستغل الفوضى لتوسيع رقعة نفوذها. فليبيا الآن في مفترق الطرق، فإما أن يتغلب السلام، وإما أن يستمر الاقتتال، وتتفاقم الفوضى العارمة والحرب بالوكالة.
وفي رأينا، يبقى الاتفاق السياسي الليبي بالصخيرات الذي تم التوصل إليه في 17 دجنبر 2015، الحل الأنسب والخيار الأفضل والعنصر الأساسي لتسوية الأزمة الليبية، وتجنب المزيد من المواجهات العسكرية، ومنع الانهيار الاقتصادي والكوارث الإنسانية، وتعريض آفاق تحقيق السلام للخطر على نحو أكبر. ثم إن تعدد المبادرات لن يفضي إلى توحيد الجهود لحل الأزمة الليبية.
فهل سيعود أطراف النزاع إلى اتفاق الصخيرات، كإطار للعملية السياسية والعمل على تنفيذه بشكل جدي؟ وهذا لا يمنع من تعديله، وفقا للوقائع والتطورات الأخيرة المرتبطة بالملف الليبي.
وفي جميع الأحوال، فإن الحل العسكري لا يمكنه تسوية الأزمة الليبية ولن يساهم في استقرار ليبيا، ويشكل عائقا أمام تحقيق تقدم على المسار السياسي. فحل الأزمة الليبية لن يكون إلا سياسيا.