الأزمة السورية «تُفرخ» ثلاث أزمات متفاقمة
تتدفق الطائرات الحربية إلى سورية من مختلف أنحاء العالم ولعل الدولة الوحيدة التي لم تساهم حتى الآن في هذا الحجيج هي دولة بنغلاديش، ولا نعرف أسباب هذا «الزهد» من حكومتها في النأي بنفسها عن هذا المجهود الحربي.
الأزمة بدأت منذ خمس سنوات، محصورة في هدف واحد هو إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد من قبل معارضة بدأت مدنية وانتهت مسلحة، ولكنها بدأت تفرخ أزمات إقليمية ودولية قد تنتهي بحروب تنسي الجميع الأزمة الأصلية.
حتى لا نتهم بالتعتيم، نشير إلى ثلاث أزمات بدأت تطل برأسها بقوة، ويمكن أن تتطور إلى صدامات دموية تنجر إليها دول صغرى وعظمى:
الأولى: توتر كبير يتصاعد حاليا بين تركيا وأمريكا من ناحية، والعراق وإيران وروسيا من ناحية أخرى، بعد إرسال أكثر من 300 جندي تركي مدعومين بـ 150 دبابة إلى محافظة نينوى (الموصل). السيد حيدر العبادي رئيس وزراء العراق اعتبر هذه الخطوة استفزازية وانتهاكا لسيادة العراق، وأعطى تركيا مهلة مدتها 48 ساعة لسحبها، وإلا فإنه «سيحتفظ بحق بلاده في اللجوء إلى أي رد ممكن، بما في ذلك اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، بينما طلبت لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي برئاسة حاكم الزاملي بقصف القوات التركية «الغازية» جوا.
الثانية: إقدام طائرات التحالف الأمريكي على قصف معسكر للجيش السوري (الصاعقة) في ريف دير الزور الغربي نتج عنه مقتل ثلاثة جنود. الجميع أكد أن الغارة كانت أمريكية بما في ذلك السيد رامي عبد الرحمن رئيس المرصد السوري المرضي عنه أمريكيا وأوروبيا، الذي قال في بيان «إنها المرة الأولى التي يتكبد فيها النظام خسائر بشرية جراء قصف جوي من الائتلاف، لكن المتحدث باسم هذا الائتلاف نفى هذه الاتهامات جملة وتفصيلا، وقال «لم ننفذ أي ضربات في هذا الجزء من دير الزور، وقصفنا آبار نفط على بعد 55 كيلومترا عنها.
الحكومة السورية قررت التقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي احتجاجا على هذا العدوان الذي يشكل انتهاكا لسيادتها، وإذا كان التحالف لم يكن خلف هذه الغارة فمن يكون؟ فـ«الدولة الاسلامية» وباقي فصائل المعارضة المسلحة لا تملك طائرات ولا صواريخ جو جو؟، «طير أبابيل» مثلا؟
الثالثة: أزمة تهريب نفط «الدولة الاسلامية» واندلاع «حرب كلامية» بشأنها بين إيران والعراق وروسيا من ناحية، وتركيا من ناحية أخرى، الدول الثلاث تتهم تركيا بلعب دور كبير في تسهيل مرور وتسويق نفط هذه «الدولة»، وتبنت إيران الرواية الروسية في صيغتها الأولى التي تتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصيا وأحد أبنائه، وصهره بتجارة النفط المهرب هذا، وهي تهم أثارت غضبه لدرجة أنه اتصل بالرئيس الايراني حسن روحاني شخصيا وهدده بأن بلاده ستدفع ثمنا باهظا إذا استمرت أجهزة الإعلام الايرانية في ترديد هذه المزاعم الكاذبة. التهديد أعطى مفعوله فورا، وتوقفت حملة الاتهامات الايرانية ضد أردوغان وأسرته، ولكن دخول السيد العبادي رئيس وزراء العراق على الخط وتكرار الاتهامات نفسها صب المزيد من الزيت على نار الأزمة وزاد من اشتعالها.
الحكومة الأمريكية حليفة الرئيس أردوغان تدخلت وأدلت بدلوها في هذه المناكفات، وقالت أن كميات نفط «الدولة الاسلامية» التي تمر عبر الأراضي التركية قليلة، معترفة بهذه الاتهامات جزئيا على الأقل، بحيث انطبق عليها المثل الذي يقول «جاء يكحلها عماها».
ومن المفارقة أن أزمة نفط «الدولة الاسلامية» تتزامن مع أزمة منظمة «أوبك» التي فشل اجتماعها الأخير في فيينا في السيطرة على إنتاج النفط وصادراته، بسبب الخلاف الايراني السعودي الذي انعكس على مداولات وزرائها، والنتيجة حدوث انهيار جديد للأسعار، حيث انخفض سعر برميل النفط إلى ما دون حاجز الأربعين دولارا، وهناك تكهنات بأنه قد يصل إلى الثلاثين دولارا، في حال بدأت إيران في ضخ مليون برميل إضافي مثلما تخطط.
«الدولة الاسلامية» تتابع هذه التطورات التي تعني فألا سيئا لها، باعتبارها دولة منتجة ومصدرة للنفط، في وقت بدأت ميزانيتها تواجه عجوزات كبيرة بسبب انخفاض الأسعار أولا، وضربات الحلفاء الغربيين والروس معا لآبارها ومصافيها، وضرب قوافل الشاحنات التي تنقل نفطها إلى المشترين سواء في دمشق أو أنقرة أو ما بعدهما، وإذا استمر حال التدهور هذا لمنظمة «أوبك» فمن غير المستبعد أن تتخلى «الدولة» عن طموحاتها المستقبلية في قبول عضويتها.
نكتب بسخرية لأن المشهد السوري بات حافلا بكم هائل من الالغاز و«اللوغاريتمات» التي تستعصي على الفهم، فَهمنا نحن على الأقل، فلم نعد نعرف من يضرب من، ومن يعادي من، ومن هو الصديق ومن هو العدو، فخريطة الضربات تتغير بسرعة، ومعها خرائط التحالفات، وأدوار اللاعبين الأساسيين والثانويين معا.
لا نعرف كيف ستنتهي الأزمة بين تركيا والعراق على أرضية «الغزو» البري لقوات الأولى، مثلما لا نعرف إلى أي مدى ستتطور أزمة إسقاط الطائرة الروسية من قبل الأولى، أي تركيا، ولا كيف سيتم حسم أزمة تهريب نفط «الدولة الاسلامية» بين تركيا ومعظم الأطراف الاقليمية، ثم كيف سيكون الردين الروسي والسوري على غارة طائرات التحالف وإطلاقها تسعة صواريخ على موقع للجيش السوري في دير الزور.
ما نعرفه، ومتأكدون منه، أن التوتر تتصاعد وتيرته بسرعة فائقة، والاحتقان المتضخم في أكثر من أزمة من الأزمات الثلاث ينتظر عود الثقاب فقط لكي ينفجر. والانفجار قادم حتما، والخلاف هو حول حجمه، وأخطاره، وضحاياه فقط.