شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

الأدب وسؤال الترجمة  

كانت الترجمة، ومازالت، رافدا ثقافيا وحضاريا مهما، إذ لعبت ومازالت دورا في إغناء الفكر الإنساني وبناء الجسور الثقافية بين مختلف شعوب العالم، وإحداث التلاقح الفكري والإنساني الضروريين لكل نهضة علمية وفكرية… ورغم ذلك تطرح الترجمة في حدّ ذاتها قضايا إشكالية في مفهومها ومنهجها وأساليبها. فالفيلسوف الفرنسي بول ريكور والمغربي عبد السلام بن عبد العالي يقاربان مسألة الترجمة من زاوية فلسفية، والشاعر العراقي سركون بولص يبرز علاقتها بالشعر، في حين يتناول الكاتب الإيطالي أمبرطو إيكو موضوع الترجمة انطلاقا من خبرته في مجال الترجمة ومن خلفيته السيميائية. بينما يكشف المترجم الراحل الفلسطيني صالح علماني مساره في ترجمة عيون الأدب اللاتيني، أمّا الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو فيتطرق إلى موضوع الترجمة من زاوية أدبية يرصد فيها تطور الترجمة من العصور القديمة إلى العصر الحديث. وأخيرا نعرض لتجربة الفنان التشكيلي المصري رمسيس يونان في ترجمته الفريدة لقصائد آرثر رامبو.

إعداد وتقديم: سعيد الباز

 

أمبرطو إيكو: أن نقول الشيء نفسه تقريبا

ما معنى أن نترجم؟ لعلّ الجواب الأوّل هو أنّ الترجمة هي «قول الشيء نفسه بلغة أخرى». إلّا أننا نواجه، في مقام أوّل، عدة مشاكل في تحديد معنى عبارة «قول الشيء نفسه»، لأننا لا نعرف ذلك الشيء معرفة جيدة، إذ نلجأ إلى كل تلك العمليات التي نسميها شرحا أو تفسيرا أو إعادة صياغة، من دون الحديث عن الاستبدالات المزعومة بواسطة المرادفات. ولأننا، في مقام ثان، وأمام نصّ نريد ترجمته، لا نعرف ما هو ذلك الشيء. وأخيرا لأننا في بعض الحالات، نشكّ حتّى في مفهوم فعل قال.

ولا داعي، (للتأكيد على مركزية مسألة الترجمة في عديد المجادلات الفلسفية)، لأن نبحث إن كان يوجد شيء بعينه في الإلياذة أو في نشيد راعٍ متشرّد في آسيا، أي ذلك الشيء الذي ينبغي أن يتجلّى وأن يشعّ مهما كانت اللغة التي نترجم إليها، أو على العكس، إن كان يوجد ذلك الشيء الذي لا يمكن بلوغه أبدا مهما كان الجهد الذي تكلّفته لغة أخرى، بل يكفي ألا نحلّق عاليا، وهذا ما سنفعله مرارا في الصفحات اللاحقة.

لنفترض أنّ شخصية ما في رواية إنجليزية تقول It’s raining cats and dogs، أبله ذاك المترجم الذي، ظنا منه أنه سيقول الشيء نفسه، يترجم حرفيا: «تمطر قططا وكلابا». في حين أنّ ترجمتها هي تمطر مدرارا أو تمطر بغزارة. ولكن إذا كانت الرواية من الخيال العلمي وتقصّ أنها تمطر حقا قططا وكلابا، عندئذ سنترجم حرفيا، وسأوافق على ذلك. ولكن إذا كان بطل الرواية ذاهبا إلى الدكتور سيغموند فرويد ليقصّ عليه أنه يشتكي من استحواذ غريب بخصوص القطط والكلاب، وأنه يحسّ بنفسه مهدّدا حتى عندما تمطر، سنترجم أيضا حرفيا ولكننا سنفقد خيطا دقيقا من المعنى يتمثل في كون «رجل القطط» ذلك، تستحوذ عليه أيضا العبارات الاصطلاحية. وإذا كانت الرواية إيطالية والشخصية التي تقول إنه يمطر قططا وكلابا هو طالب من مدرسة بيرليتز، لا يقدر على الامتناع عن إضفاء مسحة إنجليزية سخيفة على كلامه، بترجمتها حرفيا إلى الإيطالية، لن يفهم القارئ الإيطالي العادي أن تلك الشخصية «صبغت» كلامها بالإنجليزية. وإذا ترجمنا هذه الرواية الإيطالية إلى الإنجليزية، كيف سنفعل لتبليغ هذا التلوين الإنجليزي؟ ينبغي تغيير جنسية الشخصية لجعلها شخصية إنجليزية تتسلّى بعبارة مطلينة… سيكون ذلك جوازا غير محتمل. وإذا افترضنا أنّ البطل يقول It’s raining cats and dogs باللغة الإنجليزية في رواية فرنسية، كيف سنترجم ذلك إلى الإنجليزية؟ ألا ترون كم هو صعب قول ما هو الشيء الذي يريد النص تبليغه والكيفية التي يستعملها لتبليغه.

هذا هو معنى الفصول اللاحقة: أن نفهم كيف يمكن، بالرغم من إدراك كوننا لا نقول أبدا الشيء نفسه، أن نقول الشيء نفسه تقريبا. لا تكمن المشكلة هنا في الشيء نفسه ولا في الشيء إنما في «تقريبا» وما هو مدى مرونة هذا الـ«تقريبا»؟ يتوقف هذا على وجهة نظرنا… إنّ تحديد هذه المرونة، أو تحديد امتداد مفهوم «تقريبا» يتوقف على بعض المعايير التي ينبغي التفاوض فيها مسبقا. قول الشيء نفسه تقريبا هو منهج يجب وضعه، كما سنرى، تحت شعار التفاوض.

 

صالح علماني: عشت لأترجم

سيروي المترجم الفلسطيني صالح علماني حكايته مراراً عن تلك الأقدار التي قادته إلى «مئة عام من العزلة»، يقول: «في منتصف السبعينيات، غادرتُ دمشق إلى برشلونة لدراسة الطب ثم هجرت الطبّ لدراسة الصحافة لكنّني لم أصمد أكثر من سنة واحدة فقط، عملت بعدئذ في الميناء واختلطتُ بعالم القاع كأيّ متشرّد. وبينما كنت أتسكّع في أحد مقاهي برشلونة ذات مساء، قابلتُ صديقاً كان يحمل كتاباً. نصحني بقراءته. كانت الطبعة الأولى من «مئة عام من العزلة» لغارسيا ماركيز. عندما بدأت قراءتها، أُصبتُ بصدمة. لغة عجائبية شدّتني بعنف إلى صفحاتها. قرّرت أن أترجمها إلى العربية. وبالفعل ترجمت فصلين ثم أهملتها بعدما سبقني سامي الجندي إلى ترجمتها عن الفرنسية، لكن ماركيز ظل يشدّني إلى عوالمه فترجمتُ قصصاً قصيرة له، ونشرتُها في الصحف المحلية ثم ترجمت له «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» (1979). لفتت الرواية انتباه الناقد حسام الخطيب، فكتب أن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية. هذه الملاحظة شجعتني على امتهان «حرفة» الترجمة، مستبعداً مسودة رواية كنت أكتبها، فمزقتها من دون ألم، فأن تكون مترجماً مهمّاً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا انخرطت في ترجمة كل أعمال غابرييل ماركيز باستثناء «خريف البطريرك». ورغم سهولة قراءة أعماله، إلّا أن ترجمتها صعبة، فهو يغرق في التفاصيل ويمزج الوقائع بالشعر. في المقابل، أشعر أثناء ترجمته بأنني أعيش الرواية كما لو أنني أكتبها. والأمر ذاته سأجده في أعمال ماريو بارغاس يوسا، وآخرين».

بعد نحو أربعة عقود من الترجمة المتواصلة، تمكّن صالح علماني من الإبحار بسفينة الواقعية السحرية إلى شواطئ الضاد بأمان، كما لو أن هذه الأعمال مكتوبة بالعربية مباشرة، وسيضيف حمولة عجائبية إلى رصيد ترجماته. فعدا كتّاب أمريكا اللاتينية، سنتعرّف إلى «قلم النجّار» لمانويل ريفاس، و«ساعي بريد نيرودا» لأنطونيو سكارميتا، و«أوباباكواك» لبرناردو أتشاغا، و«كلّ الأسماء»، و«قابيل» لجوزيه ساراماغو. عمل صالح علماني كما لو أنه ورشة كاملة متجاوزاً سقف الـ 100 كتاب، وبات القرّاء العرب ينتظرون ترجماته على وجه التحديد لدرجة إهمال اسم الكاتب لثقة هؤلاء القرّاء بأنهم حيال وليمة دسمة من لذة القراءة مهما كان اسم صاحبها. وسوف يحصد معظم الجوائز العربية للترجمة، وليس من المستغرب أن يُطلق عليه لقب «مترجم برتبة كولونيل» بفضل كثرة الأعمال المترجمة التي قام بها والحاملة لعناوين جنرالات وكولونيلات أمريكا اللاتينية مثل: «ليس لدى العقيد من يكاتبه»، و«الجنرال في متاهته» لماركيز، و«حفلة التيس» لماريو بارغاس يوسا. هذا الثراء في اللغة المصقولة والمشبعة والأنيقة لن يمرّ بلا مطبات، ذلك أن صالح علماني وضع هذه النصوص تحت ثقل مسطرة أسلوبية واحدة تخصّه أولاً، أكثر مما تخصّ هذا الكاتب أو ذاك. ففي هذه الترجمات، لن نجد فروقات تقنية وأسلوبية واضحة بين ماركيز وإيزابيل الليندي، أو بين ساراماغو ويوسا، وخوان رولفو وإدواردو غاليانو، فجميعهم يخضعون لإيقاع موحّد، وختم بلاغي واحد، ينتصر المترجم فيه لأسلوبه أكثر من انتصاره لفضاء المؤلف الأصلي. يقول مبرّراً أسلوبيته في الترجمة «يرتكب بعضهم آثاماً لا تُغتفر باسم الترجمة الحرفية، إذ لا يتعلق الأمر بوضع كلمة بدل أخرى، بل بتشكيل جغرافية النص جمالياً ومعرفة أسرار اللغتين، اللغة الأم واللغة المترجم عنها». يضيف: «الأسلوب هو المترجم»، معوّلاً على الدقة في التقاط النبض الأصلي للنص، والحدس في اكتشاف المعنى الدقيق للجملة. التفت صالح علماني في السنوات الأخيرة إلى ترميم ترجماته بأعمال لكتّاب ما بعد الواقعية السحرية، متجاوزاً رغبات دور النشر بترجمة أعمال المشاهير فقط، كنوع من تسديد حساب رغبة شخصية مؤجلة. لكن هذه الترجمات لم تنَل حظوة واسعة لدى القرّاء، بسبب سوء التوزيع. إنّ أفضل ما قيل عن صالح علماني قول الشاعر محمود درويش: «هذا المترجم ثروة وطنية ينبغي تأميمها».

 

عبد السلام بن عبد العالي.. الترجمة المدمنة

ينبّهنا جيل دولوز إلى أننا نخطئ عندما نعرّف المدمن بأنه الشخص الذي لا ينقطع عن تعاطي الكحول. المدمن هو ربّما على العكس من ذلك تماما، إلى حد أن بإمكاننا القول إنّه ما يفتأ يكفّ عن معاقرته. فهو إذن أقرب إلى الانقطاع منه إلى المواصلة. إنّه يثابر على الانقطاع، دوما بمحاذاة الكفّ والتوقف. وهو ما يفتأ يقترب من الكأس الأخيرة. بلغة أصحاب الرياضيات، فإنّه «يميل نحو نقطة التوقف». تحديده للنهاية تحديد تحليلي، وليس جبريا.

يستعمل «دولوز» عبارة موفّقة إلى حدّ بعيد، للدلالة على هذه العلاقة بالحدود والتوقف والانقطاع، وذلك عندما يقول: «إنّ المدمن يشرب دوما الكأس ما قبل الأخيرة. فما يهمّه بالضبط ليس آخر كأس، وإنما الكأس ما قبل الأخيرة، لأنها هي التي «تحقق» له التوقف والاستمرار في آن. كل كأس يملؤها، يملؤها باعتبارها الكأس ما قبل الأخيرة. كل كأس هي مماس التوقف، كلّ كأس هي توقف ناقص واحد. إنه لا يبلغ الحد الأخير، وإنما ما قبله على الدوام.

… لعلّ القارئ سيستغرب شديد الاستغراب لو علم أنّ ذهني انصرف إلى هذا التحديد لعلاقة المدمن بالتوقف وبلوغ النهاية، وإلى ما قبل الأخير و«موته»، وأنا منكب على ترجمة أحد النصوص التي أتلذذها، قراءة وترجمة. وجدتني وأنا بصدد النقل إلى اللغة العربية، أدمن على القراءة، وإعادة القراءة، فالترجمة وإعادة الترجمة. وجدتني دوما بمحاذاة التوقف والانقطاع، دوما بصدد الترجمة ما قبل الأخيرة… التي ما تفتأ تموت. مما دفعني إلى التساؤل: أليست كل ترجمة، في نهاية الأمر، هي دائما الصيغة ما قبل الأخيرة؟

لو أننا حددنا الأمر على هذا النحو، فربما أقحمنا الترجمة في زمانية يحكمها حساب اللامتناهي في الصغر كما يقول الرياضيون، وربما طرحنا قضاياها بعيدا عن زمن الوصل وإعلاء الأصل، بعيدا عن زمن التوقّف وبلوغ النهايات المحددة، بعيدا عن الزمان الذي لا يرى الموت إلا آخر المطاف، بعيدا عن زمان الميتافيزيقا، لنرمي بها في زمان التكرار الذي يرى في كل فصل وصلا، وكل توقّف حركة، وكل موت حياة متجددة، وكل نهاية بداية ثانية، وكل نسخة  تكرارا لأصل.

عندما يؤكد بورخيص على أنّ النص لا يعتبر أصليا إلّا من حيث كونه إحدى المسودات الممكنة التي تعبّد الطريق لنص سيكتب بلغة أخرى، فربما تُبين أنّ الترجمة تنظر إلى كلّ نص على أنه دوما ما قبل- نص pré-texte، كل نص هو دائما ما قبل. بهذا تغدو الترجمة شهادة على البدايات المتكررة للأصل، ونوعا من التنقيب عن مسودات الكاتب الثاوية خلف مبيضته. فكأنّ مسعاها هو أن تعيد إلى النص مخاض ميلاده، فتنفخ فيه الحياة من جديد، وتلبسه حياة أخرى ولغة أخرى.

لاشك أن هذه الزمانية تتنافى مع كل طرح لقضايا الترجمة داخل أخلاقيات الأمانة والخيانة، ما دامت تصدر عن موقف يدفع بالأصول والنسخ، والبدايات والنهايات دوما نحو الأبعد. في النص سابق الذكر يورد «دولوز» عبارة لشارل بيجي يقول فيها: «ليست النهاية هي التي تجعل البداية تستمر وتبقى، وإنما هي البداية التي تجعل النهايات تتواصل وتدوم». حينئذ تغدو الأصول هي التي تحاكي نسخها، وتصير الترجمة دوما معلّقة en suspens، وتصبح الخيانة بذلك أمانة مؤقتة، والأمانة خيانة إلى حين، كما تغدو الترجمة إدمانا على الترجمة، وتصبح كل ترجمة الصيغة ما قبل الأخيرة.

(الفلسفة فنّا للعيش)

 

أدونيس وسان جون بيرس.. ضيّقة هي المراكب

كان لترجمة الأعمال الكاملة للشاعر الفرنسي سان جون بيرس (1887-1975) من قبل الشاعر أدونيس صدى كبير، لم يخل من الجدل والنقاش. فقد كان من بين من اعترضوا عليها الكاتب التونسي علي اللواتي الذي وصفها بأنها إعدام لخطاب شعري. وبغض النظر عن هذا النقاش تمثل ترجمة أدونيس لسان جون بيرس في حد ذاتها حدثا مهما في الشعرية العربية، حيث تم استحضار إحدى أقوى التجارب الشعرية الأكثر تأثيرا في الشعر العالمي، بنفسها الملحمي وروحها التجريبية التي تمزج بين الغنائية الشفافة والحكمة العميقة. الجانب الآخر في هذه القضية أن أدونيس قدم لنا سان جون بيرس بنبرته وصوته الشعري أو كما قال الناقد العراقي علي جعفر العلاق: «أحيانا يبدو الفارق هشا بين لغة أدونيس شاعرا، ولغته مترجما. إنه هو هو، هنا وهناك: الهوس باللغة، الافتتان بالمجاز، وتضبيب الدلالة». من زاوية أخرى يبدو في المقابل أن ترجمة أدونيس لسان بيرس مثلت تحولا أساسيا في تجربته الشعرية، حيث يمكن القول إنّ في مساره الشعري ما قبل سان جون بيرس وما بعده.

 

ضيّقة هي المراكب…

أيّها الأحباء، أيّها الآتون بعد الأوان بين الرخام والبرونز في تطاول

نيران المساء الأولى،

أيّها الأحباء، يا من ران عليكم الصمت وسط الجموع الغريبة، ستشهدون

كذلك هذا المساء لمجد البحر:

… ضيّقة هي المراكب ضيّق سريرنا.

لا حدّ لامتداد المياه، وأكثر اتّساعا مملكتنا

ذات الغرف الشهويّة المغلقة.

***

ليدخل الصيف الآتي من البحر. للبحر وحده سنقول

كم كنا غرباء في أعياد المدينة، وأيّ كوكب صاعد من

أعراس تحت البحر،

أقبل ذات مساء، إلى سريرنا، يشمّ سرير الإلهي.

***

عبثا ترسم لنا الأرض القريبة حدودها. موجة واحدة

من العالم، الموجة ذاتها منذ طروادة

تدحرج إلينا خاصرتها، بعيدا عنّا في المدى الأرحب كان

هذا النَّفسُ، من قديم مطبوعا.

وكانت الضوضاء ذات مساء عالية في الغرف: لم يكن الموت

ذاته، يسمع في خشخشة الأبواق الصدفية !

***

أحبّوا، أيها الأزواج، المراكب، والبحر مدٌّ في الغرف !

الأرض ذات مساء تبكي آلهتها، والإنسان يطارد حيوانات

شقراء، المدن تبيد، النساء يحلمن… أن كان دائما على بابنا

هذا الفجر الكبير المسمّى بحرا –منتقى من الأجنحة محضونا

بالأسلحة، حبّا وبحرا لسرير واحد، حبا وبحرا في سرير واحد-

***

وهذا الحوار المتواصل في الغرف.

بول ريكور.. عن الترجمة

… أودّ أن أعود إلى الحديث عن هذا الاعتراف لإثارة ما أسميته اللامترجم النهائي الذي تظهره وتولده أيضا الترجمة. فقضية الأمانة والخيانة تطرح كقضية عملية لأنه لا يوجد معيار مطلقا لما يمكن أن تكون عليه الترجمة الجدية. هذا المعيار المطلق قد يكون «نفس المعنى» مكتوب في مكان ما، فوق أو بين النص الأصلي ونص الوصول. هذا النص الثالث قد يكون حاملا للمعنى الشبيه الذي يفترض أن ينتقل من النص الأول إلى النص الثاني، ومنه يكون التناقض المختبئ تحت التعارض العملي القائم بين الأمانة والخيانة. إنّ الترجمة الجيدة لا تهدف إلا إلى معادلة مفترضة غير مؤسسة داخل هوية المعنى التي يمكن أن نبرهن عليها، إنّها معادلة دون هوية. يمكن أيضا أن نربط هذا التخمين لمعادلة دون هوية أو تشابه بعمل الترجمة والذي يتجلى بشكل أوضح في فعل إعادة الترجمة Retraduction الذي نلاحظه على مستوى النصوص الكبرى للإنسانية، خاصة تلك التي استطاعت تجاوز حاجز تنافر أنظمة التقطيع وإعادة البناء الجملي والنصّي التي ذكرناها آنفا مثلا بين العبرية والإغريقية واللاتينية أو بين لغات الهند والصين، لكننا لم نتوقف أيضا عن إعادة الترجمة داخل نفس الفضاء الثقافي، كما نرى ذلك من خلال ترجمة الإنجيل وهوميروس وشكسبير ودوستويفسكي. هذا الجهد مطمئن للقارئ لأنه يسمح له بالوصول إلى أعمال ثقافة أجنبية لا يتكلم لغتها.

لكن ماذا عن المترجم ومشكلته حول الأمانة والخيانة؟ إنّ أكبر عشاق الترجمة، أي الرومنطقيون الألمان الذين يسرد أنطوان بيرمان مغامراتهم في كتابه «محنة الغريب» ضاعفوا تنويعات هذه المشكلة العملية التي حاولوا التخفيف منها بصيغ مثل «تقريب القارئ من الكاتب» و«تقريب الكاتب من القارئ». ما يريدون التخفيف منه هو حيرة خدمة سيدين: الغريب في غرابته والقارئ في رغبته في التملك. وسنساهم في هذا التخفيف باقتراحنا التخلي عن حلم الترجمة المثالية مع اعترافنا بوجود الاختلاف الذي لا يمكن تجاوزه بين الذاتي والأجنبي. من هذا الاعتراف أود أن أقفز إلى شيء آخر.

ما كان رغم كلّ شيء مفترضا، بصيغة تبدو متواضعة. للمعادلة دون تشابه، هو الوصول المسبق لهذا المعنى الذي يفترض أن «تستعيده» الترجمة، كما نقول، وما تحمله الفكرة الغامضة لكلمة «استعادة». هذه المعادلة لا يمكن إلا أن تكون الصين القديمة واليونان القديم والكلاسيكية وأطروحته التي لن أناقشها الآن ولكنني أتخذ منها مجرد فرضية للعمل، هي أنّ الصينية هي الآخر المطلق للإغريقية وأنّ معرفة اللغة الصينية من الداخل تعادل تفكيكها من الخارج، وداخليا للفكر واللغة الإغريقيين. الغرابة المطلقة هي إذن من جانبنا سواء أكان ذلك في الألمانية أو أية لغة لاتينية. وإذا دفعنا بهذه الأطروحة إلى حدّها الأقصى وهي أنّ اللغة الصينية واللغة الإغريقية تتمايزان بـ«طبقة» أولية من المفكر فيه والذي يمكن الإحساس به، و«طبقة» لا يمكن بعدها التوغل إلى الأمام.

 

عبد الفتاح كيليطو.. من الشرح إلى الترجمة

… يمكن أن نقول نحن: إذا غاب الشارح، فلا فهم. الشارح ضروري للقارئ كالناسخ لأبي العلاء. قارئ أبي العلاء شبه أعمى يتلمّس طريقه في غياهب النصّ، لا بدّ له من دليل يقود خطواته. وقد يتملّكه الشعور أنّه أمام لغة، لا أقول أجنبية، وإنما غريبة. إنّها العربية مع ذلك. لا ينبغي أن نعتقد أنّ القراء في الماضي كانوا يفهمون كتابات أبي العلاء أحسن منّا، كانوا هم أيضا بحاجة إلى الشارح الذي قد يكون المؤلف أو غيره. عندما يفسّر أبو العلاء ما يتلفّظ به، يكون في الآن مؤلّفا وشارحا لما يُنتج. إنّها خاصية الأدب العربي القديم، ألّا يُفهم لأول وهلة، أن تصادف القارئ صعوبة في إدراك معنى النصّ. فكأنّ أدبيته تكمن في غموضه وعدم وضوحه. يفترض النصّ في هذه الحالة قراءة مُتمهلة، كلّ كلمة لها قيمتها وفضلها. ينبغي أن تُرى، أن يُزاح عنها الغشاء الذي يجعلها غير منظورة، أن تثير الانتباه فجأة. إنّها «القراءة رافعة رأسها»، حسب تعبير رولان بارط.

ما يُدرك بسهولة محتقر تافه، الأدب يختلف عمّا هو تلقائي وأليف، فمقابل الشوق والتخوّف اللذين يشدّان القارئ إلى «ما يلي»، وهذا يحصل عند قراءة السيّر والأخبار، يوجد التيقّظ والانتباه إلى «الآن»، إلى اللحظة الراهنة، وهذه ميزة القول الشعري. هناك إذن نوعان من الكتابة. فمن جهة الكتابة التي لا تُبصَر ولا تطمح أن تُرَى، والتي ينحصر دورها في الإخبار بأمر ما، كما هو الشأن في كتب التاريخ والتفسير، فالنبأ، الخبر، هو كلّ ما يهمّنا فيها، لا حاجز بيننا وبين ما تِؤدّيه من معنى، إنّها كتابة لا تحتاج إلى شرح، سمة الأدب العامّي غير المكتوب، أو المكتوب بتراخ وتهاون. ومن جهة ثانية هناك الكتابة التي تُبصَر كلماتها الواحدة تلو الأخرى، وهذا ما يميّز الشعر والنثر المسجوع أو الفنّي.

يتجلّى هنا الاختلاف مع الأدب الحديث الذي لا حاجة فيه إلى شرح لغوي يرافق الشعر، وقل الشيء نفسه، وبالحَرَى عن الرواية. لا نتصوّر ديوان شعر يصدر اليوم وأسفل صفحاته مليء مثقل بشرح الكلمات، لا يجوز أن يكون فيه ولو شرح لكلمة واحدة. قد لا يُفهم كلام الشاعر، وهذا هو الغالب اليوم. لكن، ليس بسبب المعجم، بل بسبب عالم الشاعر وخصائصه الأسلوبية. استغنى الشعر الحديث عن الشارح، لم يعد لوجوده مبرّر. جاء دور، كيف نسمّيه؟ المعلّق، الناقد، المحلل، وبصفة خاصّة المترجم.

تعوّض الترجمة الشرح. بصفة عامة يشتاق النصّ لمن يشرحه أو يترجمه. وكما هو شأن الشرح، يكون نصّ الترجمة سلسا مستساغا. ما أسهل قراءة بديع الزمان الهمذاني (القرن العاشر الميلادي) في الترجمة ! لا إشكال حينئذ إلّا في بعض الإحالات التاريخية والجغرافية. لن يعن للمترجم طبعا أن يترجمه في اللغة الناقِلة، الفرنسية مثلا، كما كانت تُكتب في القرن العاشر، وإذا فكّرنا قليلا، فذلك ما قد يتعيّن فعله، رغم عبثيته، لتحقيق شكل من الملاءمة مع النص العربي. في الماضي من الزمان كان للشارح مكانة المترجم اليوم. عندما نقرأ مؤلّفا أجنبيا في ترجمة، قد يصادفك سؤال من أحد معارفك عن اسم مترجمه. في عصر المتنبي كان السؤال عن أسماء من شرحوه. في أيّ شرح تقرؤه؟ كان يُرفع حينئذ من شأن الشارح، كما يُرفع اليوم من شأن المُترجم، بحيث صارت له مكانة مرموقة تُضاهي مكانة المؤلّف أو تتفوّق عليها.

(التخلّي عن الأدب، ص ص: 46/47)

 

سركون بولص: ترجمة الشعر تمرين يومي قاسٍ

كان الشاعر العراقي سركون بولص أكثر شعراء اللغة العربية مزاولة لترجمة الشعر من اللغة الإنجليزية على الخصوص بحرفية عالية وبوفاء نادر. اعتبر سركون مثاله الأعلى في الترجمة الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا فهو بالنسبة إليه مثال للمترجم الحق خاصة في ترجماته لمسرحيات وليم شكسبير. فقد كان للترجمة تأثير عميق على لغته الشعرية على مستوى البناء والتركيب وخلق لغة جديدة، فيقول عن هذا التأثير: «التأثير كان كبيرا جدا. والترجمة فن قائم بذاته وأنا عندما أترجم، خصوصا الشعر، أقوم بكتابة النص من جديد باللغة العربية محاولا أن أجد الصوت الكافل كما ينبغي أن يكون بالعربية لذلك الشاعر المترجم. وهذا امتحان قاس جدا، والترجمة اليومية المستمرة هي نوع من التمرين بالنسبة لي. وهذا التمرين هو ممارسة اللغة لكي أجد البدائل في العربية لأقصى وأدق التعابير في اللغة الإنجليزية. والتحدي هو أن تجد في اللغة العربية التعابير الدقيقة والتراكيب المعقدة التي تجدها أحيانا عند كبار الشعراء. فمثلا أحيانا أقوم بترجمة أبيات من جحيم دانتي لأني أحب أن أترجم لنفسي المقاطع الصعبة لأمتحن اللغة العربية وأتساءل هل يمكن لهذه اللغة أن تعبر عن هذا الشيء أو ذاك كما أجده باللغة الإنجليزية لأحد أعظم شعراء اللغة الإيطالية. ويقود هذا التمرين أحيانا إلى تجاوز نفسك واللغة لاختراع نوع جديد من التراكيب الشعرية وكل هذا طبعا يؤثر في النهاية علي كشاعر عندما أكتب».

تأثر سركون بولص بالكثير من المترجمين، خاصة الشاعرين الأمريكيين عزرا باوند وويليام ميروين، هذا الأخير كان مهووسا بترجمة الشعر منذ أن حثه عزرا باوند على الإقبال على ترجمة الشعر بكثافة، وكيف اكتشف ويليام ميروين بعد مدة أنّ لغته كانت فقيرة وخالية من الكثافة الشعرية وعمق الدلالات. فالشاعر عزرا باوند بالنسبة لسركون بولص لم يكن عظيم الأثر عليه فحسب، إذ إن ترجماته للشعر الصيني أحدثت ثورة في اللغة الإنجليزية وقدمت درسا هائلا ومفيدا لدور الترجمة في إحداث التلاقح بين اللغات والثقافات المتباعدة. يقول سركون بولص: «عندما ترجم عزرا باوند للشعر الصيني أحدث ثورة كبيرة في اللغة الإنجليزية على الإطلاق وما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن، وفي كتابه   Cathay  الذي ترجم فيه لأربع عشرة قصيدة صينية معروفة، عن الحرب وظهر في عام 1915 حين كانت الحرب العالمية الأولى جارية أثر في الشعر الإنجليزي بعمق، لأنه قدم التراكيب أو  «Ideographs » الصينية، أي وحدات الفكر والتعبير بها في اللغة الصينية. وعندما وجد لها عزرا باوند البديل باللغة الإنجليزية أحدث ثورة ومن هذه الثورة خرج شعراء مثل غيري سنايدر، الذي لولا تأثره بالشعر الصيني والياباني لما كتب كما يكتب الآن وغيره من الشعراء من بينهم ويليام ميروين الذي هو مترجم عظيم، وعاش طوال حياته من الترجمة، وقدم العديد من شعراء الإسبانية والفرنسية والبروفانسية إلى قراء اللغة الإنجليزية. فالترجمة هي نوع من التلقيح، وهي نوع من الجسور التي تمتد عبر اللغات، وتجعل جميع اللغات والكتابات في النهاية تتشارك وتتداخل وتتلاحم لتخلق شيئا جديدا».

 

رمسيس يونان وأرثور رامبو.. فصل في الجحيم

عُرِف رمسيس يونان (1913-1966) رساما مصريا طليعيا ومن مؤسسي الحركة السريالية في مصر رفقة الشعراء والفنانين جورج حنين وكامل التلمساني وفؤاد كامل… وهو بلا شك من رواد الفن الحديث في مصر الذين أطلقوا شرارة الإبداع والتحديث خلال أواسط القرن العشرين، إضافة إلى مواقفه السياسية التقدمية التي جعلت منه أكثر الفنانين المصريين تأثيرا في الثقافة والإبداع المصري المعاصر. يمثل رمسيس يونان استثناء حيث أقدم على ترجمة عملين أدبيين في المسرح «كاليغولا» لألبير كامو وفي الشعر فصل في الجحيم لأرثور رامبو، حيث نالت الترجمة الأخيرة نجاحا مبهرا، واعتبرت الصيغة العربية الأقرب إلى النص الأصلي لفصل في الجحيم المتميز بإشراقات رامبو وحدوسه الشعرية، بوصفه شاعرا رائيا، على حدّ تعبير رامبو بنفسه. وكما قال الكاتب حفناوي بعلي في كتابه (الترجمة الأدبية): «حافظ رمسيس على التوازن بين إيقاع الشعر… وبين الترجمة الرفيعة والواعية والإبداعية. فجاءت ترجمة رمسيس إبداعا على إبداع. وهكذا تجاورت بلاغة التصوير الشعري مع بلاغة التصوير الفنيين».

 

عرق خبيث

ورثت عن أجدادي الغاليين العين الزرقاء البيضاء، والعقل الضيق، والخرافة في القتال، إني أرى ملبسي لا يقل عن ملبسهم بربرية. لكنّي لا أضع دهنا في شعري.

كان الغاليون في عصرهم أقلّ الناس براعة في سلخ جلد الحيوان وحرق الحشائش. وعنهم أخذت: الوثنية والولع بانتهاك الحرمات، بل كل الرذائل، الغضب والشبق، -يا لروعة الشبق؟- وعلى الأخصّ الكذب والكسل.

جميع الحرف تفزعني. السادة والعمال، جميعهم فلاحون، شائنون. اليد ذات اليراع لا تفضل اليد قائدة المحراث –يا له من قرن يدوي !- لن تكون لي يدي. وبعد، لا يقف الامتهان عند حدّ. ثم إن أمانة الشحاذة تفجعني. والمجرمون كريهون كالخصيان: أمّا أنا، فلم أمْسِ، كلّ هذا لديّ سواء…

لكن ! منْ الذي جعل لساني من الغدر حتّى لقد أراد وصان لليوم كسلي؟ فدون أن أستخدم في سبيل العيش جسدي، ومع بطالتي التي تفوق بطالة الضفدع، عشت في كلّ مكان. ما من أسرة في أوروبا لم أعرفها.

-أعني الأسرات، كأسرتي، التي تدين بكلّ شيء لإعلان حقوق الإنسان، عرفت جميع أبناء الأسرات !

………

 

لو أنّ لي أشباه سالفين في أيّ وقت كان من تاريخ فرنسا ! لكن كلّا البتة.

ومن الواضح أنّي كنت دائما من سلالة منحطة. فالتمرد يسمو على إدراكي. ولم تهب سلالتي قطّ إلّا لتنهب. فعل الذئاب مع الفريسة التي لم تقتنصها.

إني أحفظ تاريخ فرنسا، بنت الكنيسة البكر. وكان بوسعي، أفّاقا، أن أحجّ إلى الأرض المقدسة؟ وفي ذهني تتخلل سهول بافاريا، وصور من بيزنطة، وقلاع في أورشليم، التسبيح بمريم والتحنّن على المصلوب يستيقظان في قلبي وسط ألف من المفاتن الدنيوية -إنّي قاعد، مجزوما، على القدور المحطمة وأوراق القريض، بجوار حائط نخرته الشمس- وكان بوسعي، متشردا، أن أنزع ذلك إلى العراء تحت سماء ألمانيا.

آهٍ ! وأيضا: أرقص السبت بمهرجان السحرة في ساحة حمراء وسط الأحراج مع عجائز وأطفال.                     

ولا تذهب ذاكرتي إلى أبعد من هذه الأرض ولا من المسيحية. لن أنتهي من رؤية نفسي في ذلك الماضي.

لكنّي كنت دائما وحيدا، بلا أسرة، بل بأيّ لسان كنت أتكلم؟ لا أتصوّر نفسي قطّ في مجلس المسيح؟ ولا في مجلس الأرباب، ممثلي المسيح.

وماذا كنت في القرن الماضي. لم أفق لنفسي إلّا اليوم. لم يعد ثمّة أفّاقون ولا حروب غامضة. لقد غمرت السلالة المنحطة سطح الأرض- الشعب، كما يقولون، والعقل، الأمّة والعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى