شوف تشوف

ثقافة وفن

الأدب البلجيكي.. من التعدد إلى حيرة الانتماء

إعداد وتقديم: سعيد الباز

يمتلك الأدب البلجيكي، دون غيره من الآداب الأوروبية، خصوصية نادرة. فالإنتاج الأدبي البلجيكي ليس متعددا في لغاته فحسب، بل في حساسية انتماءاته وارتباطاته بالمراكز الثقافية المجاورة. فهذا الأدب يتوزع بحسب اللغات المتداولة في البلاد، فهناك الأدب الوالوني الفرنسي اللغة ذو التوجّه الفرانكفوني في الأغلب، والمرتبط بالثقافة الفرنسية عموما، وهناك الأدب الفلامنكي الذي يعتبر هولندا والثقافة الهولندية مجاله الأساسي من حيث الحضور والانتشار أو الامتداد أحيانا أخرى. لكن رغم حيرة الانتماء والتعدد على مستوى اللغة والحساسيات الأدبية، يبدو الأدب البلجيكي شديد الحيوية ويمتلك حضورا أدبيا قويا على مستوى أوروبا والعالم.   

 

 

آميلي نوثومب.. بيوغرافيا الجوع

إنها أرخبيل أوقياني يُدعى «فانواتو»، ما كان يعرف في الماضي بـ«هيبريدس الجديدة»، ولم يعرف الجوع يوما. نظرا لموقعها في عرض البحر قبالة شواطئ كاليدونيا الجديدة وجزر فيدجي، حظيت «فانواتو» لعصور بأكملها بمؤهلين كليهما نادر وقلّ ما يجتمعان: الوفرة والانعزال.

… انتفاء الجوع مأساة لم يتطرق إليها أحد من قبل.

على غرار تلك الأمراض اليتيمة التي لا تحظى باهتمام الباحثين، لا يثير اللا جوع أي قدر من الفضول بشأنه: فيما عدا أهل «فانواتو»، لا أحد يصاب به.

التغذية المفرطة التي نشهدها عندنا، في الغرب، لا تشبه حال «فانواتو» في شيء. إذ يكفي أن ينزل أحدنا إلى الشارع لكي يصادف أناسا يتضورون جوعا. كما أننا لكي نكسب قوتنا علينا أن نعمل. الشهية عندنا متأصّلة.

ما من شهية إلى الطعام في فانواتو. يأكل الناس من قبيل المراعاة واللباقة، لكي لا تشعر الطبيعة، وهي هناك ربّة المنزل الوحيدة، بالإهانة. فهي التي تُعنى بكل شيء: السمط يُطبخ على حجر ألهبته أشعة الشمس، لا أكثر ولا أقل. وطبعا ينضج السمك لذيذ الطعم، ومن دون جهد يبذل، «ليس الأمر لعبة»، قد يقول واحدنا شاكيا.

لِمَ يتكبّد المرء مشقة ابتكار صنوف الحلوى عندما توفّر له الغابة فاكهة لذيذة الطعم فاخرة إذا قارنا بها صنوف الكعك التي نبتدعها نحن لبدت مبتذلة وبلا طعم؟ لِمَ قد نشقى في إعداد أنواع الصلصة عندما يكون طعم عصارة الصدفيات ممزوجة بحليب جوز الهند الصلصة التي تجعل من كل مزيج نعدّه في مطابخنا أقرب إلى طعم المايونيز المنفّر؟ لا نحتاج إلى صنعة لكي نفتح توتياء البحر التي التقطناها للتوّ ولكي نستلذ بلحمها النيئ. وهذه قمة الذواقة. أما إذا انتقع بعض ثمار الغوافة في حفرة ما حيث سقطت عرضا فإذ ذاك يحظى المرء، من دون أن يدري، بشراب مسكر. أمر بسيط.

لقد لفتني سلوك هؤلاء الثلاثة الوافدين من أهراء الطعام التي تدعى فانواتو: كانوا وديدين، كيّسين، مهذبين. ولم تبدر منهم أيّ بادرة لؤم أو عداوة: كأننا إزاء أناس مسالمين للغاية. لكن ناظرهم يشعر بأنّ السأم مقيم في نفوسهم: كأنّهم لا يكترثون بأيّ شيء. حياتهم لطالما كانت نزهة متبطّلين، مستمرة. يعوزها السعيُ.

ليس متعذّرا علينا أن نعيّن ما هو نقيض فانواتو: كلّ الأماكن الأخرى هي نقيض فانواتو. ذلك أن القاسم المشترك بين الشعوب قاطبة هو أنها شهدت المجاعة في فترة ما من تاريخها. المجاعة تولّد الروابط والصلات. وهي مادة لحكايات تروى.

زعيمة البطون الخاوية من دون منازع هي الصين. فماضيها سلسلة متصلة من الكوارث الغذائية أسفرت عن أعداد لا تحصى من الموتى. وأوّل ما يبادر به صينيّ صينيا آخر هو سؤاله: «هل أكلت؟». كان على الصينيين أن يعتادوا أكل ما لا يؤكل، لذلك نجد هذا القدر من رهافة الذوق في فن الطبخ لديهم.

هل من حضارة تفوق الحضارة الصينية تألقا ومهارة؟ الصينيون اخترعوا كل شيء، وفكّروا في كل شيء، وفهموا كلّ شيء، وتجرؤوا على كل شيء. والانكباب على دراسة الصين هو انكباب على دراسة الذكاء مجسّدا.

لكنّهم غشّوا. كانوا يحقنون أنفسهم بمنشّط غير مشروع: كانوا جائعين.

لسنا هنا في معرض ترتيب المكانة بين الشعوب. بل على العكس. نحن هنا بصدد البرهان على أن الجوع هو هويتنا الأسمى، وبصدد القول لكلّ بلد بضجرنا بالطابع الفريد المزعوم لشعبه، بأنّ كلّ أمة هي معادلة متمحورة حول الجوع.

 

 

ديميتري فيرهولست.. التعساء

… انتقلت شائعة عودة «روزي» إلى «آرسينديجيم»، «يا للمعجزة !».. «يا للمعجزة !» بسرعة فائقة. أمضيت تلك الأيام تحاصرني أسئلة رجال دبّت فيهم الحياة من جديد. أرادوا أن يعرفوا منّي ما إذا كان كلام سكارى البلدة صحيحا. كان كذلك بالفعل: فلدهشتنا، نحن أيضا، رجعت عمّتي «روزي» بعينين متورمتين يحيط بهما السواد، وبرأس منكس، تسأل إن كان بإمكانها وابنتها الإقامة معنا لبعض الوقت.

«معنا» أي لدى جدّتي، التي دمّر أربعة من أولادها الخمسة، وأبي أحدهم، حياتهم العاطفية، وعادوا للإقامة مع أمّهم. ولمّا كانت أمّي قد سئمت حدّ الموت، لا من أبي وحده، بل منّي أنا أيضا. فقد أخذتني جدتي تحت جناحها. أمضيت أيامي الفاترة بصحبة أبي وأعمامي الثلاثة. الآن، سوف تنضمّ إلينا عمّتي «روزي» وابنتها «سيلفي»، هربا من رجل يعذبهما بالخيانة والعنف.

كنت ألتقي ابنة عمّتي، القادمة من «بروكسل»، بشكل متقطع. غالبا ما يحدث ذلك في الجنازات، أو في يوم رأس السنة، وعندها يشعر كلانا بأنه ينتمي لعالم مختلف، ولذلك يتجاهل أحدنا الآخر بحكمة. كان لديّ اعتقاد بأنها تعزف على البيانو، وترقص الباليه مرتدية تنورة وردية منفوشة. كانت من ذلك النوع من الفتيات اللاتي يحسبن السُعرات الحرارية التي وفّرنها يوميا، واللاتي يؤمن بأن «بابا نويل» يمتلك حسابات مصرفية ضخمة. الالتحاق بالجامعة أمر يقيني في سماء تطلعاتها. ولأنها ورثت الجمال عن أمّها، فسرعان ما سوف تسلّي نفسها بتشجيع الشبّان على إضاعة أوقاتهم في محاولة نيل إعجابها. كانت تصغرني قليلا، لكن ثقتها الزائدة بنفسها جعلتني أتراجع عن إظهار تفوقي عليها عمريا، أو في أيّ مجال. لم يسعدني وصولها. تعايشتُ مع حصننا الذكوري على نحو جيّد قبل دخولها حياتنا. أزعجتنا التربية المحترمة لـ«سيلفي»، وأثارت أعصابنا. رأينا حالتنا المزرية منعكسة في عينيها.

… لكن الآن، مع مراقبة «سيلفي» لنا، بدا وكأننا احتجنا فجأة للاعتذار عمّا اعتدنا على فعله. أحسسنا بالحرج من نزولنا إلى الطابق السفلي صباحا، ونحن نرتدي ملابسنا الداخلية ذات الفتحات الأمامية… غمرنا الحرج كذلك من طريقتنا في الاستلقاء أمام شاشة التليفزيون، ونحن ندخن، رافعين أقدامنا التي تنبعث منها رائحة العرق فوق المنضدة. شعرنا بالحرج من أرطال اللحم المفروم، التي نستهلكها لرخص ثمنها، ونأكلها نيئة لأن ذلك سهل. شعرنا بالحرج من طريقتنا في مدّ أصابعنا لأخذ حفنات من اللحم ووضعها داخل أفواهنا، قبل أن نسكب وراءها رشفات من بقايا القهوة الباردة، التي ظلت في أكوابها الباردة منذ اليوم السابق…شعرنا بالحرج من تجشّؤنا، دون محاولة السيطرة على ذلك. شعرنا بالحرج من أشياء كثيرة: من سبابنا الدائم… من السجائر المتدلية من أفواهنا، حين يهاجمنا النعاس ونحن في مقاعدنا، ومن أسناننا التي تغطّيها بقع النيكوتين، ورائحة البيرة التي تنبعث منّا… شعرنا بالحرج من طريقتنا في الغناء عندما نثمل، ولغتنا البذيئة، وقيئنا والزيارات المتزايدة من رجال الشرطة والمُحْضِرِين. شعرنا بالحرج، لكننا لم نفعل شيئا حيال أيّ من ذلك.

مرّت ثلاثة أسابيع قبل أن يظهر العم «روبرت»، زوج عمّتي «روزي»، على بابنا وهو يسأل: هل «روزي» هنا؟

أجبناه: «روزي»؟ كلّا. هل يفترض بها أن تكون هنا؟

اقتحم المنزل بكتفيه العريضين، وجرّ عمّتي «روزي» من شعرها، وركلها ليدخلها سيارته. ركبت ابنة عمّتي السيارة، وجلست في المقعد الخلفي وهي تبكي، واختفت من حياتي حتى الجنازة التالية… اجتمعت آراؤنا على أن بلوغ سن الستين دليل على البورجوازية. ولكن إن كنّا سنتحدث بصراحة، فإنّ علينا الاعتراف بأننا أحسسنا بالارتياح لمغادرة عمّتي روزي وابنتها سيلفي للبيت، أخيرا. كان وجودهما مزعجا للغاية.

 

 

ستيفان بريجس.. صانع الملائكة

… حسم أهالي القرية المترددون في قصد عيادة الدكتور «هوب» أمرهم في الأيام التي أعقبت واقعة «جورج باير»، وخاصة بعدما قصده الأب «كايزرجربر» لعلاج التهاب في المعدة. غير أنّ الأب قصد العيادة لسبب آخر خلاف مرض معدته المزمن هذا، فقد كان يتوق إلى إشباع فضوله. كما كان ضميره دافعا إضافيا. فقد حدثت أمور في الماضي، وأراد أن يتأكد مما إذا كان الدكتور باقيا على ذكراها أم لا.

-فيك الكثير من والدك.

هكذا أراد الأب للحوار أن يبدأ، بعدما استقبله الدكتور استقبالا عمليا باردا في غرفة الفحص. كانت الصناديق تشغل جانبا كبيرا من مساحتها، وفي المساحة المتبقية يوجد مكتب قديم وكرسيان.

ردّ «فيكتور هوب» على الملاحظة بإيماءة جافة، ثم طلب منه أن يصف له الأعراض بكل دقة.

جرّب الأب حظه مجددا بعد برهة: كانت أمك مسيحية طيبة.

ومرة أخرى جاء الرد بإيماءة رأس خفيفة. ولكن الأب لاحظ هذه المرة مسحة تردد. فرأى أن تعليقه قد أحدث أثرا ولو كان لا يذكر.

طلب الدكتور منه خلع ثوبه الكهنوتي. أطاعه، رغم أنه شعر وكأنه يخلع عنه درعا تحميه من شرور الدنيا. ولذلك بقي طوال خضوعه للفحص يتلمس الصليب الفضي الصغير المعلّق في عنقه، وكأنّه يلوذ به من أيّ فكرة شريرة قد تخطر على بال الدكتور.

في تلك اللحظة وجد نفسه يقول للدكتور: عيد القديسة «ريتا» الأسبوع المقبل. والقرية كلها تحجّ إلى «تبة كالفاري» في «لاشابيل» حيث دير «الأخوات كلير».

جسّ الدكتور معدته، ضاغطا ببعض القوة على المناطق التي توجع أكثر. صاح الأب متألّما، ولكنه نجح في منع نفسه من التفوه بلعنة ساخطة.

علّق الدكتور «هوب»: هذه هي تماما النقطة التي يتصل عندها المريء بالمعدة.

نجح الطبيب في تجاهل موضوع العيد، ولكن الأب «كايزرجربر» أدرك أن ذكره لهذا الموضوع قد لامس وترا حساسا في نفس الدكتور، مثل ذاك الذي لامسه الدكتور في بطنه للتوّ.

أعطاه الدكتور علاجا، ولما سأله الأب عن أتعابه، هزّ «فيكتور هوب» رأسه رافضا: واجبي أن أفعل الطيب، والطيب لا يقدّر بمال.

دُهش الأب، وخُيّل له للحظة أن الدكتور يسخر منه، ولكنه ردّ مجاملا بأنّ هذا نبل منه، وخرج من العيادة وهو حيران، مما زاد من آلام حموضة معدته.

في المنزل تناول ملعقة من الدواء، وبقدر أقل مما وصفه له الدكتور، «ماذا إن كان سمّا؟». ولكن سرعان ما أخذت وطأة حموضة المعدة تخف وتخفت… إلى أن تبددت.

ذهبت عنه أوجاعه بالكامل في غضون يومين، وبعد يومين آخرين شعر بتحسن كبير في صحته، وكأنه لم يعان يوما من ألم في معدته. وكم كان لتلك الحال الجديدة أثرها الطيب على نفسه…

هكذا قصد أعيان «فولفنهايم» العيادة. فمنذ تعافى الأب «كايزرجربر» صار يدق جرسها كل من يشكو من ورم، أو سعال جاف، أو من تورم أصابعه، أو من خشونة ركبته، أو حتى من كانت آلامه واهية. غير أن القرويين من ذوي الأمراض العضال مثل فتق مزمن أو صمم خلقي، مثل حالة «جونتر ويبر» لم ينقطعوا بدورهم عن عيادة الدكتور «هوب»، على أمل أن تحدث معجزة أخرى. ورغم أن «إرما نوسبوم» قد زعمت خلاف ذلك، فإن الدكتور لم يكن مستعدا بالفعل لاستقبال كل هذا العدد من المرضى. وكما تبين للأب، فلم يكن الدكتور قد جهّز غرفة الفحص بالصورة المناسبة…

 

 

آن بروفوست.. ذكريات مغربية

حينما نُطلق لفظة «بورغروكو» Borgerokko في بلجيكا، يفهم الجميع تقريباً أنّنا نتحدث عن «بورغروت» Borgerhout هذه البلدية التابعة لمدينة أنفيرس حيث نسبةٌ مهمّة من السكان المنحدرين من أصلٍ مغربي. أقطن بورغروكو: وهو إدغامٌ طريفٌ لبورغروت وماروكو (التسمية الفلامانية للمغرب). لقب مقاطعتي يبدو لي مسليّاً أكثر مما هو تهكّمي، رغم أنه يُنطق عموماً بنبرة تحقيرية. بالتأكيد، نعرف عُقَد بلدي تجاه المهاجرين المغاربة: مزيجٌ متفجِّر من اللوم والشعور بالذنب، من الاضطراب والتوجّس. أنا وُلِدتُ في مكانٍ لم يُرَ فيه أيُّ مغربيّ باستثناء طبعاً فترة الحرب العالمية الأولى حيث اجتاز نصف العالم مسقط رأسي.

تعود أولى ذكرياتي عن المغرب إلى يومٍ بعينه. كنتُ طفلةً صغيرة، وكنت ألعبُ في غرفة الجلوس. كانت نوافذ الغرفة أكثر من الحيطان وكان بصري يتجوّل بين أبراج الأجراس على سهل «إيزير» الفسيح. أراض خصبةٌ من الطين المرمّل مطرّزةٌ بالصفصاف وسياجات الزعرور. كنتُ أجهل كل شيء عن الرسائل المعسولة التي كان يبعثها أرباب المصانع في مدننا الكبيرة لاستجلاب اليد العاملة من الخارج. على الشاشة الحدباء، كانت عمّتاي الهرمتان تتفرجان على صور بالأبيض والأسود لمسيرة في الصحراء: راياتٌ تتوسّطها نجمة، كثبانٌ رملية، عيونٌ واسعةٌ غامقة، وجوهٌ سمراءُ ضاحكة، إشاراتٌ موجّهة إلى الكاميرا. كان ذلك في أواسط السبعينيات. روبورتاج في نشرة الأخبار المتلفزة حول «المسيرة الخضراء». عمّتاي، اللتان توفيتا منذ زمن، استحضرتا مباشرة ما شاهدتا في طفولتهما استعراضاً لفرسان جذّابين من الصحراء يمتطون خيولاً بيضاء صغيرة. شبانٌ بهيجون وعفويون يحملون الشمس في أطرافهم. كان ذلك سنة 1914، السنة الأولى للحرب العالمية. وإذ أوشكت الحرب على الاندلاع، تذكّرَت القوى العظمى أنّ لها مستعمرات. «لقد جئنا مستعمراتنا بالسلام والحضارة وعليها الآن أن تفعل شيئا من أجلنا» هكذا قيل. وهكذا أُرسِلوا إلى جبهات القتال عندنا.

لم أمكث حيث وُلِدْت. انتقلتُ إلى المدينة الكبيرة ذات الميناء واستقرّ بي المقام في الحيِّ الذي ينبغي أن أقرأ فيه الكتابات على واجهات المحلات من اليمين إلى اليسار.

هل كنتُ أريد العيش ضمن نساءٍ يشبهنني في كل شيء كالشقيقات: بنفس روائح الطعام في الملابس، بنفس الجريدة في صندوق البريد، وبنفس الجزمات حينما يشتدّ البرد؟ لا أعتقد ذلك. أقمتُ ببورغروت من أجل روائحه: المشوي والكسكس وطاجين لحم الغنم والشاي بالنعناع والبقلاوة والفستق وماء زهر شجر البرتقال. بدا لي بديلاً جيّداً عن روائح البطاطس والكرنب المنتشر بوفرة في الفلاندر. أسكن في بورغروت منذ عشرين سنة تقريباً.

تنتعل النساء المغربيات عندنا جزماتٍ مختلفةً عن جزمات النساء المنحدرات من أصل بلجيكي. ابنتي ذات الأربعة عشر ربيعا نبّهَتني للفروقات: إنهنّ ينتعلن جزمات بكعبٍ واطئ ورؤوسٍ مختلفة وألوان داكنة. إنها جزمات مغربية إذن، رغم أن لا علاقة لها بالبلد الذي تعيشين فيه. سألتُ ابنتي إن كانت تجد هذه الجزمات أقلّ جمالا من جزماتنا، فأجابت بالنفي. فقط، تقول، إنها واعية بما «نُعبِّر عنه من خلال الموضة». على المائدة ابني المراهق يرُدّ بنبرة أترابه المغاربة. آباءُ أصدقائِه يعيشون في أنفيرس منذ مدّة أطول مني. يأخذ ابني هذه النبرة عن اقتناع وبجدية: لغةُ أمِّه مُتصنّعة أمّا هو، وهذا ليس ادعاءً، فقد تكوّن في مدرسة الشارع. يُصبح أكثر قتاليّة حينما نُعبّر بجُمل تعميمية عن المسلمين.

الأصول موضوعٌ يأسر أطفالنا. من تحت نافذتي، تصل أصوات الأطفال متقطّعة «بييييللللججج». أسأل ابني: «على من ينادون؟». «إنهم ينادونني» سنذهب إلى المدينة، إنهما محمد ومو. «ولماذا ينادونك بلجيكي؟».. «هكذا ندعو بعضنا البعض، أجاب. صيني! تركي! عربي!  بلجيكي!».

لم يُفلح أبناء جيلي في الاختلاط مع مغاربة مدينتي. رغم أنني حاولت. مررتُ عند الجيران وتركتُ حذائي في مدخل الباب. أكلتُ الكسكس في قصعة على الأرض، بيدي حيناً وحيناً بملعقة. ذهبتُ إلى حفلات الزّفاف، نظمتُ اجتماعات، وشاركتُ في الإفطار خلال رمضان. لديّ انطباعٌ بأنّ هناك في مدينتي وحيّي وزقاقي عالما موازيا يتماسّ مع عالمي. هل فعلا انغمستُ في هذا العالم؟

 

هنري ميشو.. أستخدم ما بقي للأفضل

الشاعر والرسام هنري ميشو (1899-1984) Henri Michaux كثيرا ما عدّ فرنسيا بسبب إقامته في فرنسا وشهرته التي انطلقت منها. يعتبر هنري ميشو من الشعراء الذين اختطوا لأنفسهم أسلوبا شعريا شديد الخصوصية أساسه التحرر من المدارس الشعرية ومن أي شكل فني سابق.

 

هنري ميشو.. أستخدم ما بقي للأفضل

الشاعر والرسام هنري ميشو (1899-1984) Henri Michaux كثيرا ما عدّ فرنسيا بسبب إقامته في فرنسا وشهرته التي انطلقت منها. يعتبر هنري ميشو من الشعراء الذين اختطوا لأنفسهم أسلوبا شعريا شديد الخصوصية أساسه التحرر من المدارس الشعرية ومن أي شكل فني سابق.

 

الحياة المزدوجة

تركتُ عدوّي يكبر داخلي.

وفي الأشياء الّتي وجدتُ ذهني محتشدًا بها، في سفراتي، أيّام دراستي، وحياتي، عشتُ كثيرًا ما لم يكن صالحًا لي.

بعد سنواتٍ وسنوات، ما زلتُ أعيش هذا مهما فعلتُ أو تعمّقت، وسيبقى في ذلك الكثير من الأشياء غير المجدية، غير الصالحة، ولكن!

 كنتُ منزعجًا، ولستُ متأثّرًا بأيّ حالٍ من الأحوال. ثمّ لم أدرك أنّ هناك خطواتٍ يجب اتّخاذها، بل تركتُ الموادّ غير المستخدمة ورائي، ببراءة، كما وجدتها.

أنا، مثل كلّ الكائنات في العالم، استخدمتُ ما بقي، للأفضل.

لكن شيئًا فشيئًا، شيّدتُ على هذه الأنقاض الّتي دائمًا ما تكون من عائلةٍ واحدة (لأنّني دائمًا أُخيَّر الأشياء الّتي من نفس النوع)، فتشكّل وتضخّم شيئًا فشيئًا، كائنٌ مزعجٌ في داخلي.

في البداية، كان ربّما مثل أيّ كائن، تصنع الطبيعة الكثير منه في هذا العالم. لكن بعد ذلك، وبعد النهوض على ركامٍ مضاعفٍ لموادّ معادية للبناء المعماريّ لكياني، أصبح عدوّي في كلّ شيء تقريبًا، ومسلّحًا بي أكثر وأكثر. لقد غذّيتُ عدوًّا داخلي كان دائمًا أقوى، وكلّما أبعدتُ عن نفسي كلّ ما كان نقيضًا لي، اكتسب منّي قوّةً ودعمًا وغذاءً لليوم التالي.

هكذا يكبر في جسدي، على غفلةٍ منّي، عدوٌّ لي أقوى منّي.

لكن ما العمل؟ إنّه يعرف أن يتبعني الآن في كلّ مكان، ويعرف أين يجد ما يغتني به، بينما خوفي من إفقار نفسي لأجله يجعلني أضمّ عناصر مشكوكًا فيها أو سيّئة، لا تفيدني بشيءٍ وتتركني عالقًا على حدود عالمي، وتجعلني عرضةً أكثر للضربات الغادرة من عدوّي، الّذي يعرفني كما لم يعرف أحدٌ عدوّه من قبل.

أنظر إلى الحال الّتي وصلت إليها الأشياء، هذه الأشياء المحزنة ستعيش من الآن فصاعدًا انشقاقَ حياةٍ مزدوجةٍ لعدم ملاحظتي إيّاها في الوقت المناسب.

 

المشي في النفق

الأفكار كانت مثل حشد ماعزٍ تقف وجهًا لوجه. الكره كان يتّخذ هيئةً صحّيّة. أمّا الشيخوخة فكانت تثير الضحك، والطفل تمّ دفعه إلى العضّ، والعالم كان كلّه راية.

قديمًا كان ثمّة رجالٌ يأخذون وقتهم، بإشعال الحطب في مدافئ قديمةٍ بسلام، قارئين رواياتٍ ممتعة، إذ مَنْ يعاني فيها هم الآخرون. هذا الزمن انقضى الآن، والأرائك تحترق في هذا الوقت، والسعادة المسيّجة لأغنياء هذا العالم لم تعد تدافع عن نفسها.

الطقس باردٌ على الجميع هذه السنة، إنّه الشتاء الغامر الأوّل.

الأمل أطرش على نحوٍ ما. الحدث لا يكترث، مثل همجيٍّ يمزّق الجلد والضمادة والأنبوب دفعةً واحدة، كان يجب البدء في المعاناة من جديدٍ وبلا أيّ أمل.

بين مسافةٍ وأخرى كان يظهر لمعانٌ ما، لكن الموجة العميقة الّتي ستجرف كلّ شيءٍ لمّا تنهض بعد. شعوبٌ، كان بعضها ينتصر، وبعضها يتقهقر، لكنّ الجميع كان يبقى عالقًا ببؤسٍ يجوب أنحاء الأرض.

أسلاف الحكمة لم يكونوا في منأًى عن ذلك،

على حين غرّة، حارَبوا عامًا بعد آخر، صبرهم المزمن، خاضعٌ لاختبارٍ صعبٍ للغاية.

الشعب المقدّر له، هو أيضًا، والأوّل، الّذي عانى، نزعنا عنه كلّ شيءٍ حتّى قميصه، وسخرنا منه، وبالمقابل، اتّهمناه أنّه سبب المصائب

شعب الهيكل الأمثل، صودرت منه حتّى أشجار زيتونه

الرؤوس كانت محشوّةً بالحماقات

كالبحر لا يتعب من الاصطدام بصخب الأمواج غير المجدية، كذلك فإنّ هذه المعركة الكبيرة تدفع صفوفًا جديدة للأمام.

توغّلاتٍ متردّدةً لا تتقدّم في شيء، وانسحاباتٌ صاعقةٌ تنتهي أمام الفراغ

لم نشهد يومًا هذا الكمّ من ضربات السيوف في الماء

أرسان الإنسانيّة كانت تعوم بمحض الصدفة، لكن مع ذلك، وفي كلّ مكان، وخلف وجوهٍ متعدّدة… الأب، الرئيس، يغرس حياته المتسلّطة، مثل مجداف، في عائلته الخنوعة.

 

اليد الضخمة عديمة الشكل

يبدو لي غالبًا أنّني أرى يدًا ضخمةً عديمة الشكل تمرّ على الأشياء أمامي.

على الأشياء كما على النصب التذكاريّة، وعلى واجهات مبانٍ بارتفاع مئات الأقدام، وتبدو راغبةً في إحداث تلفٍ كبير.

لكنّها ليست أكثر من ملامسات

هذا ما تدفعني تجربةٌ قديمةٌ للتصريح به، مجرّد ملامسات، وخاليةٍ من أيّ رقّة.

وبدون كتلةٍ حقيقيّة؛ فلكي تكون ما تبدو عليه، لا بدّ أنّها عبرتْ ولا تزال تعبر جدرانًا سميكة، حجارتها لا تقوى على دفعةٍ واحدةٍ من هذه اليد، مع ذلك، لا ينتج عنها تلفٌ خاصٌّ على حدّ علمي.

لهذا السبب لا يقلقني الأمر أكثر من المهندسين المعماريّين الّذين، كما قيل لي، لا يشغلهم ذلك بتاتًا

 

 

دانيال سيمون.. ستظل هنا

ولد الشاعر دانيال سيمون Daniel Simon سنة 1952 في شارلوروا ببلجيكا، شاعر متعدد الاهتمامات، فقد عمل منشطا ثقافيا وناشرا أدبيا ومخرجا مسرحيا. إضافة إلى الإعلام والتدريس. درّس تاريخ المسرح في العديد من الجامعات البلجيكية، كما كتب في المسرح والقصة.

 

ستظل هنا

ستظل هنا،  الغيوم تعبر فوق هامتك  فيما أنت تغسل روحك  لتبيعها، ستظل هنا، فيما الغروب يتجرّد من الهمسات، ستظل هنا  مترددا في الشمس المائلة بداخلك كما لو كنت تدفّئ الميّت الآتي نافثا فوق راحتي يديه، ستظل هنا في هذه اللحظة داخل الفضائل الزهيدة، والموشّاة كلّها بسكّر الرغبات، ستظل هنا بداخل الكارثة سوّيا دون أن تدري من الدابة أين الظهر منها وأين صدرها. ستظل مثل من يبحر فوق لوح وسط عباب البحار لا يميّز حينها ما يدفعه للاطمئنان، وأنت إمّا شبح أو جسد يمتدّ لكن دون أن تصدّه هذه النصال التي تبترد بالجوار والتي ستنهال عليك قريبا، هذه المدية باردة حدّ أنّها لم تعد تضايقك في النعاس الذي يأتي إليك والذي تناديه، ستكون هذا الأمر الضائع، هذا الأبله بلا مصير المتدحرج بلا مطبّات والقادم ليرتطم هنا على حافة الأكواخ المشيّدة بأناة هنا وهناك، ستكون مندهشا من أنّك لم تعد تفهم شيئا،  وأنّك لم تعد تميّز بين الليل والنهار، ستكون حيث كنت تحلم أن تكون بعيدا عن هزّات الشمال عن الوخزات والتمزّقات، العيون مازالت مغمضة من كثرة ما ارتقبت، الجلد في تمدد بياض المغاربيات، ونساء مفاجئات للجسد المشوّش كلّه بالرّيح، ربّما ستكون بالداخل أو بالخارج، الأغاني عذبة وهائجة في نفس الآن، الثغور تنتشي في قبلات النافورات الجامدة، النصال لبرهة لم تعد تتجه صوب صدغيك، وأنت في حلّ من الوعود القديمة سراويلك تسقط، قمصانك تتطاير، ونعالك تتخصّف، الأبله يجبن وهنا في بلاد المغارب القويةّ الآسنة وبلا مواراة، ساعتك الرملية تجهد نفسها في عدّ الوقت، أنت في الغرب، غرب «العربات» المشؤومة، لقد وصلت إلى أرض من رخاء من مباهج وبؤس، ولم تعد سوى ظل في دولاب الظلال، تفتح فمك كي تغني وكي تقضم بملء الصوت وفي سرعة الجراد والأرانب المتوحّشة، شفاهك على شفاه الصحاري، فيما أنت  في هذا المكان من الزرقة حيث تأتي النصال أخيرا  لتنهال مجنّحة بين رفيف  طيور الدوري  فوق شجرة الزيتون.  

 

قصيدتان

 

في الخارج وشوشة مبللة حيث تعبر السيارات، والسماء الرمادية ترتاح فوق صور مائية، في الساعات المسننة في الذكريات المدرسية، في العلل الزائفة، والرغبات الجارفة كي نكبر وكي نبلغ هذه الأسرار المخفية فوق الدولاب وفي عقول البنات، لكن اللون الرمادي يكاد لا ينتهي البتة من كيّ الشراشف المبسوطة لسموات بلا غيوم حيث ألتفّ محاولا نسيان حشرجة الكآبة.

***

ربّما هي الرّيح، أو شيء سائل يتناثر في الهواء، حين لم نعد نفكّر في هذه الكارثة التي تتوكّأ على كاهل كل امرئ منّا، والتي تجعلنا يوما ما نستسلم بالمنكب بالورك، بالقلب أو بالعقل، نستسلم ولا شيء يتغيّر في هذه المادة الهشّة التي تنتقل من الواحد إلى الآخر وتمتدّ حتّى أنفاس الأشجار العظيمة.

 

هوغو كلاوس.. الحيوان المتغيّر الذي هو أنا

هوغو كلاوس (1929-2008)  Hugo Klaus شاعر وروائي ومسرحي بلجيكي من الشعراء الطليعيين  للأدب الفلامنكي  من أشهر أعماله رواية «حزن بلجيكا» يعدّ من أهمّ شعراء بلجيكا وسبق أن رشح لجائزة نوبل.

 

ضجر

رأيت ما يكفي

عشت ما يكفي

بل، إنّي رميت خوذتي.

أحرى أن يموت المرء معدما

من أن يناله التحلّل

متوسّلا

قليلا من الجمال.

 

 

في فيافي القفار

تنهال الغيوم المرّة

أسرع من الشمس

فوق هامات الأشقياء

 

في فيافي القفار

في غمرة الغازات الخانقة

تشحب الخضرة

ويحزن الأتقياء

 

في فيافي القفار

تخوم مريعة

وشرّ في لبوس الورع

وبيارق نكراء

 

في فيافي القفار

يتلظّى الرمل

ويأمُرُ سعرُ النفط*

عبيرَ الخزامى السوداء،

فيما

الطائرة الحوامة تحمل نعوشا من الزنك.

 

* القصيدة عن حرب الخليج

 

 

فوات السنين

الحيوان المتغيّر الذي هو أنا
يحتفل بميلاده اليوم
ويتعرّف على وجاره
للمرة الرابعة والعشرين

**

فوق قضبان العالم
تترعرع الوحشيةُ وتكبر
كما لو هِرٌّ في بيت
ينطّ عالياً فوق عروسه الشبقة.

 

**

أحيانا أتأمل الحيوان كيف يخمشُ بحماقةٍ
وشراسةٍ
بين رتقِ الشِباك
بحثا عن السنوات التي
صاغتني كما أنا: كائنٌ حيواني
متغيّرٌ اليوم ثمّ طفلٌ
يتلاقح ثم يوغل
في الحريق. في وجاري
أحتفل بفَواتِ سنيني: فراشةٌ،
دمٌ وظلمة.
مرحبا

صباحٌ ما كبيتك الفارغ دوما
أناسٌ تعدّ، واحدا واحدا
لتدخل الأيام في القفص.

 

 

ستيفان هيرتمانز.. لا أحد يقرضك أياما

ستيفان هيرتمانز Stefan Hertmans شاعر وروائي، يعد حاليا من أهم الكتاب الفلامانكيين في بلجيكا خاصة روايته «الحرب والتربنتين».

 

 

قيد الإنشاء

افتحْ باب القصيدة.
البيتُ فارغ.
سيكون عليكَ صنع الأثاث بنفسك،
خزانة للملاءات التي لم ينم عليها أحد
وبعض الأرفف للحكايات
التي لا يحتاجها كلبٌ بعد الآن.

سيكون عليكَ أن تُسْدل حياتك على المشهد
وأن ترسم نيرانًا في ثقوب بالجدار

لم تمرَّ ساعة بعد
إلّا وقد دخل الجوع.

ساعة الجدار من الجرافيت
ولا أحد يُقرضك أيامًا.

 

نصفُ ما صنعتَه
اختفى مرَّة أخرى.

لم يعد هناك باب أمامي،
الباب الخلفي مفتوح.
هل تسمع الرِّيح؟

 

على الطّريق

كانت لديه يدٌ
تشير إلى النِّهاية
وأخرى لم تكن هناك.

أمُّه ذات يوم كانت أسطورة للرَّبيع،
ارتعاش شفتها السُّفلى،
الألم الذي عبر اللَّهيب،
وكيف كان فوق الأمواج.

لا يزال يتذكَّر كيف مرَّ النُّور،
كيف مات كلّ شيء في جسده
فاستردَّ تلك اليد مرّة أخرى، يدٌ
تجاهلتْ ما لم يكن يملكه
لم تُمنح له أبدًا
رغم أنَّهم ألصقوها بجسده.

تكلَّم عن النِّهايات السَّوداء،
عالم لا مفرّ منه،
الغاز المسيّل للدِّموع والأطفال القتلى،
في رأسه سلك شائك.
ولا أحد يَعدُ بشيء.

 

 

 

جان كلود بيروت.. أنا هنا أشيخ

جان كلود بيروت Jean-Claude Pirotte  (1939-2014) شاعر وفنان تشكيلي بلجيكي يكتب بالفرنسية، تميزت حياته بالترحل والتيه  مع عمق التأمل في أطوار حياته، من أجمل أعماله «هذه الروح التائهة».

في كوخ إحدى الضواحي

الشّعْرُ، هذا جَيِّدٌ

بالنّسبةِ للإِوَزِّ والطُّيورِ والمتَعَطِّلين

كما كان يقول أبِي                  

من الأَجْدرِ بكَ أن تتعلَّم القانون المدني

فتعلّمتُ رقصتي التانغو والبيجوين

تعلّمتُ أن أقول أحبّك بالكاتالانية

بالكرواتية والتركية والبولونية

أمّا اليومَ فإنّي لا أقول أبدًا أحبك

لأَيِّ شخص ولا بأيّة لغةٍ

أنا هناكَ أَشيخُ

في كوخ إحدى الضَّواحي

مصاباً باصطفاف تقويم الطّريق.

 

لن تعرف أبدا من أكون

قال الطفل أمرّ في طريقي
أذهب نحو البراري البعيدة
حيث يغني العشب عند منتصف الليل قرب الصفصاف
الذي يبكي إذ هكذا
تنفتح لقلبي الموسيقى الوفية
وهكذا يبدأ العالم أخيرا بالحياة
وأبدأ أنا بالموت
لن تراني أكبر
ولن تتعرف على خيالي
المتكئ الى الحذر حيث يختفي
الممر الأسود في فوضى الأشواك
ونجوم الصحابة البيض.

 

مهما نظرت باستمرار وراءك
كما لو كنت تخاف العاصفة
وأنت تسرع والبرق يلاحقك
أبدا لن تفاجئ ابتسامتي
القاسية بحنان كابتسامة قاتل حزين.

 

 

 

 

توم نيس.. النواة النفيسة للمسافات

توم نيس  Tom Nisseشاعر من أصول تعود إلى لوكسومبورغ كان يكتب بالألمانية في بدايته الأولى، ثم تحوّل إلى الفرنسية وانخرط بالكامل في الحياة الثقافية البلجيكية.

           

العابرة

الحفلة كانت

ولا أذكر منها سوى نحيب

يتسحّب خلف التشنّج.

 

هكذا، من الذي فات وانقضى

يمكن أن تنبعث الإرادات.

 

 

مع ذلك

ليس في مقدوري منازلة

هذا الخصم المجدّ والقاطع

هذا الحدس الذي سيكون، والذي كان

مقيتا في العبث.

 

لن يكون في مقدوري منازلة

فكّ الكولونيل المزواج والعصبي

أو أنفاس قناصيه على ظهر المرأة.

(ولا أنا كنت أرغب في ذلك)

 

ما الذي أملكه إزاء

هذه الرؤوس الرمادية المتكدّرة والموثّقة قرب المنظار

ما الذي أملكه إزاء

هذه المختارات المحبوكة في مخازن إنجيل شيزوفريني

أو هذه النتوءات

المصاغة كي تنزع الأفق عن الإدراكات المتأرجحة

المصاغة كي تجعل الحساء ناقصا

لكي تخفي بطاقات المسلخ تحت البلاط

لكي نفسّر الفرية المترفعة لفتاتكم المتوترة

 

أجيب، لكن تبدو لي تافهة هذه المباراة

في هذه الوليمة المفترسة

حيث نتبادل التهاني

بالتمتع بريش الإوز.

(إنّي لا أستطيع)

 

كيف يمكن الوصف في أكثر الأعماق المتعذرة على الشفاء…

وما من شكل محدد يكفي لهذا الألم المكتوم

 

هي

كان لها صوت استثنائي

كانت ماهرة في الهمس

كانت لا تزين اعترافاتها

 

هي مجنّحة كالمسافة.

 

بديهي

ألّا نحلّق دون محاسبة

من درج مرقّم.

ثم هل سبق أن تجرّأ أحد

على الكلام عن القراءات الصباحية لجلاد؟

 

 

(لقد التقينا أخيرا، أنا وهي

وهو بالتأكيد أبدية

أن نحبس معا في طيّات ملف سريّ)

 

إنّي أغسل الغموض عن وجهها.

 

كانت تريد أن تسكن هذه الصحاري الجديدة

حيث كنا نرمي بالضحكات وأعقاب السجائر مثل الطلاسم السحرية

كي نكون لطفاء مع دمنا.

 

 

هي الآن

النواة النفيسة للمسافات.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى