على الرغم من مرور 16 سنة على رحيل الملك الحسن الثاني، إلا أن اللحظات الأخيرة من حياته ظلت تثير فضول الصحافيين، خاصة والأمر يتعلق بزعيم لا يخلو مساره من مواقف مشوقة حتى في الساعات الأخيرة من حياته.
في هذا الملف، نعيد تركيب حكاية الرحيل، عبر رصد آخر انشغالات الرجل، وآخر مواعيد أجندته المليئة بالالتزامات، فقد عاد منهكا من رحلة وداع إلى فرنسا حيث شارك في اليوم الوطني وهو يخفي تقاسيم المرض، ولم يغير من عاداته قبل الرحيل بساعات إذ أقام حفل عشاء بنفس الطقوس المخزنية على شرف الرئيس اليمني عبد الله صالح، وضرب موعدا في اليوم الموالي مع خبير فرنسي في التعليم الجامعي، ولم يطلب من ديوانه إجراء أي تعديل على أجندة مواعيده الاعتيادية، بل إنه لبى طلب الصحفي الفرنسي جان دانيال ومكنه من حوار مثير كان آخر خرجات الراحل الإعلامية.
ولأن الحسن الثاني كان استثنائيا في حياته وفي مماته، فقد ظلت جنازته موضوع انشغالات الزعماء السياسيين والإعلاميين، ليتبين للجميع أن الملك هو أكثر من زعيم بل مادة إعلامية مثيرة تسير على قدمين.
الحوار الصحفي الأخير للحسن الثاني
قبل أن يرحل إلى دار البقاء استجاب الملك الحسن الثاني لمطلب الصحفي الفرنسي جان دانييل صحافيا، الذي عرف بحواراته مع الملك، وشد جان الرحال إلى الرباط حيث أنجز حوارا مطولا نشرته «نوفيل أوبسرفاتور» في عدد 8 يوليوز 1999. لكن المثير في هذا اللقاء هو السؤال الأخير الذي يجعل المتلقي يفهم منه أن بوادر رحيل الملك قد ظهرت للصحفي حين وجه إليه السؤال التالي: «هل تشعرون يا صاحب الجلالة أحيانا ببعض الندم والحسرة وأنتم تتأملون حياتكم؟».
كان جواب الحسن الثاني أشبه باعتراف اللحظات الأخيرة: «أجل، وحسرتي الكبيرة هي أنني كنت أميل إلى رؤية تلقائيتي في الآخرين، وكنت أمنح ثقتي بسرعة دون أن أضع الأشخاص على المحك، وكان هذا سبب جميع الزلات التي وقعت فيها كيفما كانت أهميتها. هذا هو مفتاح أخطائي وهفواتي».
كانت العلاقة بين الحسن الثاني ورئيس تحرير مجلة «نوفيل أوبسرفاتور» تتميز بالمد والجزر، حيث انقطعت زيارته للمغرب لمدة عقدين من الزمن، قبل أن يستأنفها في السنة التي توفي فيها الملك، وقال دانييل عن هذا الجفاء ثم عودة الدفء إلى علاقته مع الحسن الثاني: «استأنفت علاقاتي مع الملك الحسن الثاني، وكان ذلك لسببين. السبب الأول أنه كانت للملك اتصالات سرية مع الفلسطينيين ومع الإسرائيليين، وكان يعتقد أنني لم أكن غير مفيد لتطوير هذه الاتصالات. والسبب الثاني هو أن صديقي الدائم، الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد، أقنعني بأن ثمة شيئا يمكن القيام به مع هذا الملك، الملتبس جدا، الموثوق منه شيئا ما، لكنه فوق الجميع تماما».
اعترف الصحفي الفرنسي بأن عبد الرحيم بوعبيد هو من كان يرسل إليه الأسئلة التي يفترض أن توجه للملك، ويدعم موقفه الرافض لاعتقال السياسيين دون محاكمة عادلة. لكن الطريف في هذا التقارب أن الحوار أجري في ذكرى ميلاد الصحفي وخصص للحدث حفل بسيط زرع الدفء في علاقة الرجل بالقصر، وذوب الصراع الذي أشعل فتيله عدد من ذوي النيات السيئة الذين اعتبروا أصول الصحفي الجزائرية (من مواليد البليدة) كافية لشن هجوم عليه والاصطفاف في جبهة معارضي أفكاره. بل منهم من يصر على ربط الصحفي بأصوله اليهودية حيث كان دانيال ينتمي إلى عائلة يهودية متواضعة. لكن والده كان يرفض القيام بالشعائر اليهودية. وحين كبر الفتى وتمكن من نسج علاقات مع مشاهير الزعماء السياسيين في الغرب والشرق، وأصبح صديقا للبعض منهم من أمثال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والعاهل المغربي الحسن الثاني، والزعيم الجزائري أحمد بن بلة، وآخرين، نسي الجميع الأصل اليهودي.
لم يكتف دانيال بالزعماء العرب والفرنسيين بل اشتهر بحواراته النارية مع كبار القادة أمثال الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، والزعيم الكوبي فيدال كاسترو. والطريف في هذا المسار الإعلامي أن جان حاور زعيمين قبل وفاتهما بأيام قليلة وهما كنيدي والحسن الثاني.
الاستقبال الملكي الأخير للحسن الثاني
كان آخر حفل عشاء رسمي أقامه الملك الحسن الثاني على شرف رئيس دولة، هو الذي نظمه الراحل بقصر الصخيرات لضيفه العربي رئيس الدولة اليمنية علي عبد الله صالح. كان العشاء رسميا بكل طقوسه المخزنية، إلا أنه اتخذ طابعا خاصا وحميميا، واقتصر على بعض الشخصيات المهمة داخل الدولة، عكس ما كان يحصل في لقاءات مماثلة. لم تخصص موائد كثيرة وتم الاقتصار على مرافقي الرئيس اليمني الأكثر قربا منه وولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد وشقيقه المولى رشيد وعبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول وإدريس البصري وزير الداخلية، وثلة من المستشارين. وعلى غير العادة، دعا الحسن الثاني ضيفه إلى التعرف على مرافق قصر الصخيرات، وطاف به جنباته وهو يشرح له حكاية الانقلاب العسكري الفاشل، وتوقف الرجلان أمام شاطئ البحر طويلا، حتى ارتبك المكلفون بإعداد وجبة العشاء. ويروي الرئيس اليمني ما دار بينه وبين الملك في حوار عقب الوفاة، قائلا: «حين عاد الملك إلى ضيوفه كشف عن مضامين حديثنا وقال للحاضرين إنني من المدافعين عن ملف الصحراء وكأنني مغربي الجنسية، وأضاف وهو يمسك ذراعي إني أعتبر الرئيس علي عبد الله صالح مغربيا».
مرت سنوات طويلة على الواقعة، لكن الرئيس اليمني ظل يستحضر اللحظات الأخيرة والعشاء الأخير وآخر شهادات الحسن الثاني في حقه، إذ قال في لقاء تلفزيوني إنه تلقى عروضا كثيرة خلال الأسابيع الماضية من عدة أطراف، من أجل الخروج من العاصمة اليمنية صنعاء، حيث يتواجد حاليا، محصنا بقوات الجيش اليمني ومقاتلي جماعة الحوثي، كاشفا أن من ضمن العروض التي قدمت له العيش في المغرب، الذي يسكن وجدانه، وأورد أن المنشقين عن حزبه، عرضوا عليه السفر إلى المغرب للإقامة الدائمة هناك.
وطالب الرئيس اليمني الأسبق، الذي قضى 33 سنة في الحكم، قوات التحالف العربي، التي تنفذ عملية «عاصفة الحزم» العسكرية ضد معاقل الحوثيين في اليمن، وأوقعت أزيد من 4500 قتيل، بوقف استهداف المدنيين، ودعا السعودية التي تقود التحالف إلى وقف حربها على اليمن، في وقت أبدى استعداه للالتزام بالنقاط السبع التي اتفق عليها مع المبعوث الأممي، وقال إنه من العبث أن يكون المغرب بلده المفضل من بين القوات المغيرة عليه.
العشاء الأخير للحسن الثاني بطعم الحمية
لوحظ خلال حفل العشاء المقام على شرف الرئيس اليمني والوفد المرافق له، أن فرحة تغمر الملك بعد أن عانى في الأيام الأخيرة من آلام ظاهرة للمقربين منه، تفاءل رجال القصر خيرا بعد أن لمسوا حجم الفرحة التي تسيطر على الحسن الثاني، إذ كان يصر على تقديم شرح مفصل حول قائمة الطعام التي ضمت نفس الأطباق التي تعود كبار الضيوف تناولها في مثل هذه المناسبات، عبارة عن خليط من أطباق مغربية تقليدية وأخرى فرنسية كان يفضلها الملك، لكن الملك في تلك الليلة، وإكراما لوزيره الأول عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان يتبع نظام حمية صارم، بعد معاناة مع مرض السكري وخروجه للتو من عملية جراحية في الدماغ ألزمته اتباع نظام أكل صارم، كان قد أعد له مفاجأة ولاحظ الذين حضروا العشاء فرحة الملك إلى درجة أن البعض منهم تفاءل خيرا، ظنا منهم بأن الفرحة ستكون سانحة ليأذن الملك لهم بالعطلة الصيفية إذ كان شهر غشت على الأبواب.
قال الملك لوزيره الأول: «لقد أمرتهم بإعداد طعام خاص بك يتماشي ونظام الحمية الذي تتبعه، اسمحوا لي فأنا سأتقاسم مع عبد الرحمان وجبته كي لا يشعر بالوحدة والانعزال»، وكان قد ساد شعور بالقلق من احتمالات غياب هذا القائد الاشتراكي عن الحفل لأنه كان في فترة نقاهة، وهو غياب قد يعني ما يعنيه بالنسبة لتجربة التناوب السياسي.
كان من بين آخر الأمور التي شغلت بال الملك قبل وفاته موضوع التعليم، وكان برنامجه ليوم الخميس يتضمن لقاء مع أستاذ فرنسي في الطب للبحث معه في كيفية تطوير طرق تلقين دروس الطب في الجامعات المغربية، وتقاسم مع ضيوفه مواضيع عديدة، بل إن الملك اتصل بصديق عربي كان يفترض أن يلتقيه في اليوم التالي. بعد عشاء طال إلى حوالي منتصف الليل ودع الملك الحسن الثاني ضيفه اليمني، وكان في حالة طيبة ومزاجه أكثر من رائق، ويبدو أن الملك خلد عقب تلك المكالمة إلى النوم في قصر الصخيرات الصيفي.
مصافحة تاريخية بين بوتفليقة وإيهود باراك في جنازة الملك
على الرغم من مسؤولياته السياسية، ظل محيي الدين عميمور متمسكا بالقرطاس والقلم، حريصا على الكتابة وتحليل واقع ومستقبل العلاقات الجزائرية الإسرائيلية، إذ اعتبرها خطا أحمر. يقول في كتابه «سفيرا زاده الخيال»: «في حدود معلوماتي فإن قضية العلاقة مع إسرائيل لا تزال خطا أحمر في كل علاقات الجزائر الدولية، وذلك منذ أنهى الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين مهمة أمين عام الرئاسة لأن طائرته نزلت بالخطأ في إسرائيل».
وصف عميمور المصافحة بين عبد العزيز بوتفليقة في جنازة الحسن الثاني أثناء مصافحته لرئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود باراك، بالتاريخية، ساعات على وفاة الحسن الثاني في يوليوز 1999. يتذكر المستشار الإعلامي الواقعة قائلا: «عرفت جنازة الحسن الثاني تدفق زعماء ورؤساء من مختلف دول العالم. وغطت مصافحة بين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، على اللقاءات الثنائية والثلاثية والرباعية التي جرت على هامش الجنازة لتصبح المصافحة موضوعا مفضلا لوسائل إعلام عربية وإسرائيلية وعالمية».
قالت كتابات صحافيين عرب وهم يدونون الواقعة إنه في يوم الأحد 25 يوليوز 1999، وبينما كان باراك ينتظر في باحة القصر الملكي في الرباط ترتيبات جنازة العاهل المغربي الحسن الثاني، مر من أمامه العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، فتجاهل باراك الذي كان مستعدا لمصافحته ثم مر علي عبد الله صالح الرئيس اليمني فتجاهله هو الآخر، وعندما ظهر الرئيس الجزائري من بعيد، التمس باراك من رافي إدري وروبير أسراف، وكلاهما من أصول مغربية أن يتوجها نحو بوتفليقة الذي جاء إلى حيث يقف باراك، بدون تردد، وصافحه بحرارة قائلا: «لم تكن لنا أبدا مشكلة مع إسرائيل». وبدت المصافحة التي تمت بالصدفة وكأنها الخطوة التي كشفت ما خفي من علاقات بين الجزائر وإسرائيل أو جبل الجليد، تبعا لوصف صحف إسرائيلية وفرنسية. ووصف بوتفليقة من صحافة بلاده بالشجاع الذي حقق اختراقا لم تجرؤ عليه السياسة الخارجية الجزائرية سابقا. تلك المصافحة التاريخية جعلت أحد الصحافيين الجزائريين يقول «الحسن الثاني دارها ببوتفليقة حتى وهو ميت».
أما محيي الدين فتصدى للصحافيين الذين كتبوا من حبر التطبيع رغم اعترافه بهول المصاب وقال: «عندما سمعت خبر مصافحة الرئيس الجزائري لرئيس الوزراء الإسرائيلي في القصر الملكي بالرباط أحسست، كما يحدث في «كارتون» (الرسوم المتحركة) توم وجيري، كأن آلة بيانو ضخمة وقعت على رأسي، فأنا من جيل كان الصراع العربي الإسرائيلي بالنسبة له جزءا رئيسيا من معادلة الحياة».
لكن التلفزيون الجزائري الذين نقل المصافحة، عمل على بتر تلاقي يد الرئيس الجزائري ورئيس الوزراء الإسرائيلي، كما ركزت الصور التي صدرت في الصحف الجزائرية على المقابلة وجها لوجه بين الرجلين.
البيان الأخير من أجل طمأنة الشعب يتحول إلى نعي
شعر الملك بالتعب منذ عودته من فرنسا، وطلب من مدير ديوانه إرجاء كل مواعيده لمدة ثلاثة أيام. حصل هذا عشية يوم الخميس 22 يوليوز سنة 1999 أي قبل يوم واحد عن وفاته. كان آخر نشاط رسمي للحسن الثاني بقصر الصخيرات، حيث كان الملك سعيدا وهو يرسل قفشاته لعبد الرحمن اليوسفي الذي كان في نفس المائدة الملكية، وفي نهاية الحفل حاول أحد المقربين منه لفت نظره إلى صورة ظهرت في إحدى المنابر الإعلامية للملك في باريس يظهر فيها بملامح منهكة، واقترح على الحسن الثاني لفت نظر رئيس تحرير تلك المطبوعة لكنه رفض وقال: «صورتي في قلوب جميع المغاربة».
تلقى إدريس البصري وزير الداخلية إشعارا بالالتحاق بالمستشفى الذي توجه إليه الملك صباح يوم الجمعة، حيث طلب من الوزير الإشراف على صياغة بيان طبي يطمئن الشعب على صحة الملك، لكنه سيخرج من الجناح الملكي للمصحة ببيان ينعي وفاته، أمام حالة ذهول لأن الرجل ظل محافظا على صلابته متحديا المرض، بل إنه أصر على حضور حفل البيعة في شهر مارس.
يقول البصري: «في يوم الخميس أخبرني أحد مساعدي الملك بأن صاحب الجلالة سيعود من الصخيرات إلى الرباط، وكنت أجهل السبب، فقد كنت أعرف فقط أنه مصاب بنوبة زكام خفيفة. وصل الملك إلى الرباط في حدود الساعة السادسة مساء، وعند الساعة الحادية عشرة وخمسة وأربعين دقيقة، وبينما كنت أتناول العشاء صحبة بعض الأصدقاء، رن جرس الهاتف. خلال اليوم نفسه اتصل بي الملك مرارا على الهاتف، ولم يكن أي شيء في صوته ينذر بأنه كان مصابا بمرض قاتل. وعندما أمسكت سماعة الهاتف قال لي: سأذهب إلى المصحة الملكية ليوم أو يومين، لا شيء يدعو للقلق، لكن تعال غدا لتحرر صحبة الأطباء بلاغا لطمأنة الشعب على صحة الملك، وموعدنا سيتأجل إلى يوم الاثنين».
في اليوم التالي أحس الحسن الثاني بتوعك صحي، فتوجه إلى العيادة الطبية في القصر. لكن الأطباء ارتأوا أن ينتقل إلى مستشفى ابن سينا، فتوجه إليه ودخله مشيا، إلا أن حالته ساءت وتدخل أطباء فرنسيون إلى جانب الأطباء المغاربة لإنقاذ حياته، دون جدوى، فقد فاضت روحه وانتقلت إلى باريها أمام ذهول محيطه.
رحل الحسن الثاني في الرابعة والنصف من بعد ظهر الجمعة 23 يوليوز، وشيعه أبرز قادة العالم إلى مثواه الأخير. حينها تحول الانشغال بالبيان الختامي لمسار الملك، إلى اعتكاف لصياغة جزئيات حفل البيعة التقليدي وتأمين الانتقال السلس للسلطة.
جنازة الحسن الثاني اختبار لحرس كلينتون
قدمت قناة «ناسيونال جيوغرافيك» فيلما وثائقيا حول مهام الحرس الخاص للرؤساء الأمريكيين، وأبرزت دورهم الصعب في مهنة حماية زعيم أكبر دولة في العالم، ووصف التحقيق أبرز المخاطر التي يتعرض لها رجال الحرس أثناء تأمين حياة الرئيس الأمريكي، لكن التقرير سلط الضوء كثيرا على جنازة الراحل الحسن الثاني بالرباط، من خلال استجواب مطول مع رئيس الحرس الخاص بكلينتون وقتها، روبرت رودريغيث، حول كيفية التعامل مع حماية الرئيس في الجنازة، والذي قال إنه مما زاد من صعوبة المهمة الأمنية «أن تنظيم القاعدة الذي لم يكن وقتها شهيرا بدأ حينئذ يهدد الرؤساء الأمريكيين بالاغتيال وكان الأول هو كلينتون»، وأضاف رودريغيث: «في الوقت ذاته كان قرابة مليوني شخص في الشارع يبكون الملك الراحل وتجاوزوا باندفاعهم جميع الإجراءات الأمنية الأمر الذي كان يجعلنا في موقف تحدي حقيقي، كان الجميع منخرطا في نوبة بكاء جماعي وكأنهم خارجون للتو من فاجعة طبيعية أو أنهم فقدوا آباءهم في كارثة جوية. كان الجو حارا وحوالي أكثر من 40 رئيس دولة ومبعوثون يقطعون مشيا على الأقدام قرابة الكيلومترين وفي يد كل منهم قنينة ماء. كان منظرا محزنا لن ننساه واختبارا لقدراتنا على الحماية وسط الزحام».
الأمير هشام معفى من الصورة العائلية الرسمية
حضر الأمير مولاي هشام إلى الرباط فور توصله بخبر وفاة عمه الملك الحسن الثاني، وكان في طليعة الموقعين على وثيقة بيعة الملك محمد السادس، التي تم إعدادها فور وصول نبأ الوفاة، وتلا نصها عبد الكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وقد وقع على عقد البيعة الأمير مولاي رشيد، وتلاه الأمير مولاي هشام، الذي قدم توا من الخارج، لذلك كان الوحيد الذي يرتدي بذلة عصرية عوض اللباس التقليدي المغربي. ثم وقع وثيقة البيعة بعده شقيقه الأمير مولاي إسماعيل، ثم رئيسا مجلس النواب ومجلس المستشارين، فأعضاء الحكومة، الذين تقدمهم الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، ومستشارو الملك ورؤساء المجالس العلمية، ورئيس المجلس الأعلى، والوكيل العام للملك، ورئيس المجلس الدستوري، والضباط السامون بالقيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، ومدير الأمن الوطني ورؤساء الأحزاب السياسية.
يقول علي عمار في كتابه: (مولاي هشام: مسار طموح مفرط): «إنه بالرغم من فداحة المصاب الجلل، فإن الأمير الأحمر لم ينضبط للطقوس، المخزنية المتعارف عليها في مثل هذه المناسبات، مضيفا أنه همس في أذن ابن عمه الملك محمد السادس بالقول: الاختبار صعب كن يقظا». وفي الصفحة 46 من الكتاب انتقد مولاي هشام حضور كبار القادة العسكريين لحفل تقديم البيعة، وقال «إنهم لم يرتدوا أحذيتهم العسكرية منذ انقلاب الصخيرات»، مما أغضب القيادة العسكرية وضباطها، وجعلهم «يتموقعون» في خندق المواجهة الخفية ضد الأمير الأحمر. ورغم حضوره الفوري ووجوده في طليعة المبايعين، ورغم أن البنت الثانية لمولاي هشام زارت الرباط بعد شهر والتقت بابن عمه الملك، إلا أن هذه المبادرة العائلية لم تخلصه من صفة الأمير المنبوذ، حيث منع من التواجد ضمن مكونات العائلة الملكية خلال التقاط الصورة الرسمية التي نشرتها مجلة «باري ماتش»، إذ بتعليمات من القصر أبعد الأمير عن التشكيلة العائلية في إشارة واضحة للموقف الرسمي من مولاي هشام.
هل تنبأ الحسن الثاني بتاريخ وفاته؟
لم تغط سيرة الملك طبقات النسيان السميكة كما تفعل عادة بالزعماء السياسيين وقادة الدول، فقد ظل رحيله يشكل نبشا حقيقيا في ذاكرة ملك، خاصة حين تنبأ بتاريخ وفاته. قال إسماعيل العلوي الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، في أحد حواراته، إن الملك الحسن الثاني قد حدثه عن رحيله قبل سبع سنوات خلت، «قال لنا في اجتماع رسمي مع الكتلة الديمقراطية سنة 1993 في مدينة إفران، لم يبق لي سوى سبع سنوات من العمل النشيط»، وهي نفس الفترة التي فصلت بين الاجتماع السياسي ووفاة الملك.
وجاء كلام العلوي في سياق حديثه عن أحد لقاءات الحسن الثاني، إذ قال الملك الراحل لمن كانوا معه، بنبرة مثيرة للانتباه، على حد قول العلوي: «لم يبق لي إلا سبع سنوات من العمل النشيط وأود أن أقضي هذه المدة معكم»، في إشارة إلى مكونات الكتلة.
«إذا نحن قمنا بعملية حسابية فسنجد أن هذه المدة هي التي عاشها الحسن الثاني بالفعل» يضيف الزعيم السياسي، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى إلمام الملك بعمره الافتراضي، وعما إذا كان الحسن الثاني على اطلاع دقيق بوضعه الصحي أم أنه كلام قاله وتحقق بالصدفة.