الأحداث المنسية لملف مؤامرة 16 يوليوز 1963..عندما حوكم وزراء
يونس جنوحي
«يقول صالح إنه أحس بتعب وخرج لاستنشاق بعض الهواء النقي خارج القاعة. فإذا به يلمح رجل أمن قادما في اتجاهه يأمره بالعودة إلى الداخل وإغلاق الباب. وقبل أن يمتثل سعد الله صالح جال ببصره قليلا ليلمح وجود تعزيز أمني يطوق المكان تماما.
نقل صالح المعلومة إلى عبد الرحيم بوعبيد الذي كان في غمرة الحديث عبر الميكروفون مع الحاضرين. فاضطر صالح إلى الكتابة على قطعة من الورق، بخط يده محذرا عبد الرحيم بوعبيد مما ينتظرهم. وعندما أخذ بوعبيد الورقة واطلع عليها، صمت لثوان عن الحديث قبل أن يواصل ما كان بصدده وينظر إلى الحاضرين نظرة ذات معنى.
يقول عبد الله صالح إن بوعبيد قال كلمة معناها أنه مستعد لأي تطورات قد تقع بعد ذلك الاجتماع. لكن الحاضرين وقتها لم يكونوا يعرفون أنهم سيكونون بعد دقائق فقط في طريقهم إلى كوميسارية المعاريف ومنها إلى التحقيقات في المعتقلات السرية حيث جرى تعذيب المئات على خلفية ملف مؤامرة إسقاط النظام. وهي التهمة التي وُجهت إلى الذين حضروا الاجتماع وقيادات أخرى لم تكن حاضرة في القاعة.
هكذا ببساطة انطلقت مؤامرة 16 يوليوز 1963».
محاكمة من زمن الرصاص..
عممت في الصحافة تغطية لتفاصيل محاكمة ملف مؤامرة يوليوز 1963 التي توبع فيها أشخاص معروفون على رأسهم عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري وعمر بنجلون ومومن الديوري. وآخرون من مختلف أجهزة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية طالتهم الاعتقالات بسبب حضورهم الاجتماع الذي عقده المجلس الوطني لتداول موقف الحزب من الانتخابات الجماعية، وحكم عليهم بسنوات سجن قبل أن يصدر عفو عن الجميع وتطوى تلك الصفحة التي أجبرت عددا ممن عاشوها على ترك المغرب واختيار المنفى. وعلى رأسهم قدماء المقاومة الذين لجؤوا إلى الجزائر، وقد كان بعضهم قد فروا خارج المغرب وهم محكومون غيابيا بأحكام ثقيلة، أمثال أحمد بنجلون وسعيد بونعيلات، واللذين لم يتم اعتقالهما إلا بعد مضي سبع سنوات على مؤامرة يوليوز 1963، وتم اقتيادهما إلى المغرب من التراب الإسباني حيث جرى تسليمهما ليُحاكما في محاكمة شبيهة جدا بمحاكمة مؤامرة يوليوز، ويتعلق الأمر بمحاكمة مراكش الشهيرة لسنة 1970.
لكن ما ميز ملف مؤامرة يوليوز 1963 أنها كانت الأكثر عنفا، وخلفت زلزالا كبيرا في صفوف القيادات الحزبية داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
إذ كان الغرض من تلك المحاكمة، أن يتم إضعاف الحزب بعد أن تقرر إدماج مرشحين من النقابة ضمن لوائح المرشحين باسم الحزب، وهو ما كان يعني اكتساحا كبيرا للانتخابات الجماعية على حساب جبهة «الفديك» التي كان وزير الداخلية وقتها، أحمد رضا اكديرة، يوفر لها كل الإمكانيات المالية وحتى السياسية لكي تتصدر المشهد السياسي في المغرب.
كان المغرب في يوليوز 1963 قد خرج للتو من أول الاستحقاقات الانتخابية في تاريخ البلاد مباشرة بعد الاستفتاء على الدستور. وهكذا فإن تبعات التضييق الذي مورس في الانتخابات البرلمانية خلال شهر ماي، بقيت تلاحق عملية الاستحقاقات التي تشكلت منها مجالس الجماعات في المدن والقرى المغربية.
هذا التوافق بين النقابة والحزب، جعل صناعة ملف مؤامرة يوليوز 1963 يتخذ منحى سريعا قبل موعد تلك الاستحقاقات الجماعية.
وهكذا تحولت مناسبة قرار عقد الحزب لاجتماع على مستوى القيادات للتداول في قرار رسمي للحزب بشأن مواصلة خوض الانتخابات الجماعية، وقام المجلس الوطني بصياغة بلاغ خطط لتلاوته أمام الحاضرين وتعميمه على الرأي العام.
وكان واضحا أن الحزب سوف يخلق المفاجأة. إذ أن عبد الرحيم بوعبيد الذي هندس البلاغ، سبق له نشر تصريحات في الصحافة يضرب من خلالها في مصداقية الانتخابات منددا بما تعرض له الحزب من إقصاء في المحطة السابقة.
وهنا برز دور التهمة التي توبع بها الحاضرون في الاجتماع. إذ بعد اقتياد الجميع إلى كوميسارية المعاريف، كان البحث جاريا عن الفقيه البصري الذي علم أنه سوف يتم اعتقاله، ولم يحضر الاجتماع، لكنه اعتقل على كل حال بعد أن كان البحث عنه على قدم وساق طيلة 3 أيام بلياليها.
وعندما تم اعتقال محمد الفقيه البصري أدرك الموقوفون أن التهمة سوف تكون أكبر من عقد اجتماع على مستوى المجلس الوطني للحزب، وإنما هناك ما هو أكبر من ذلك.
وفعلا، بعد إطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد في تلك الليلة، أدرك بعض العارفين بكواليس المؤامرات، أن التهمة لن تكون بالتأكيد متعلقة بالاجتماع وإلا لما أطلق سراح بوعبيد. وفي اليوم الموالي بدأت التحقيقات مع الموقوفين، تتخذ صورة أخرى، إذ كان يتم طرح أسئلة تتعلق بدورهم في مؤامرة تخطط لاستهداف النظام وإدخال السلاح إلى المغرب للقيام بأعمال مسلحة للسيطرة على السلطة. وهو ما نفاه كل الذين تم التحقيق معهم بمن فيهم عبد الرحمن اليوسفي، وعمر بنجلون الذي اغتيل سنة 1975، بالإضافة إلى مومن الديوري الذي كان على اتصال وثيق بقدماء المقاومة خصوصا قدماء الخلايا السرية للمقاومة الذين اعتقلوا في الخمسينيات بسجن القنيطرة.
هذا الأخير، قال خلال بدء جلسات محاكمته في نونبر 1963 إنه اضطر إلى مراوغة المحققين الذين عرضوا عليه أن يلعب دور «الغرّاق» لزملائه وأن يعترف بوجود مخطط تخريبي يقوده أعضاء الحزب، وكان تصريحه قد شكل قنبلة في قاعة المحكمة لأن صحافيين من منابر دولية كانوا يتابعون الجلسة، كما أنه تحدث عن تعرضه للتعذيب في مركز سري، لم يكن معروفا وقتها ما إن كان الأمر يتعلق بدار المقري أو درب مولاي الشريف. ولاحقا فقط عرف المعتقلون أين كان يتم تعذيبهم واستنطاقهم. إذ أن موضوع استغلال دار المقري في عمليات التعذيب والاختطاف وقتها لم يكن معروفا نهائيا.
في هذا الملف سوف نتعرف على كواليس من المحاكمة وبعض التفاصيل المنسية المرتبطة بها.
هل فكر المُتابعين في المحاكمة في الإطاحة بالنظام؟
بالنظر إلى أن جل المتابعين كانوا من قدماء المقاومة ومن قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذين كانوا على اتصال وثيق بهم. فإن تهمة التخطيط لعمل مسلح كان أساسها أن جل المتابعين كانت لديهم خلفية دراية بالعمل المسلح لأنهم نشطوا داخل خلايا المقاومة قبل 1956 بل وبعدها أيضا خلال عمليات جيش التحرير في الصحراء ضد الإسبان.
ومما زاد توريط المتابعين، أن بعضهم فروا فعلا خارج المغرب سنة 1960 بعد ما عرف بمؤامرة محاولة اغتيال ولي العهد، والتي أنهاها الملك الراحل محمد الخامس بإطلاق سراح الجميع لعدم توفر أدلة إدانة لبعض قدماء المقاومة، من بينهم سعيد بونعيلات الذي كان من المتهمين الرئيسيين في الملف.
أما محمد الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، نجما المحاكمة، فقد كان قد سبق اعتقالهما بسبب افتتاحية جريدة «المحرر» التي كانا يشرفان على إدارتها ورئاسة تحريرها. وبعد أن طوي الملف وجدا نفسيهما أمام ملف مؤامرة يوليوز 1963.
بينما كان المتهم الآخر الأكثر بروزا، والذي خطف الأضواء من الجميع خلال الجلسات، هو مومن الديوري. فهذا الأخير كان معروفا بعلاقة عائلته بأسرة المقاومة، وتم توريطه في التهمة لأنه من قياديي الحزب البارزين، ولأنه رفض التواطؤ ضد زملائه، وشكلت جلسات الاستماع إليه داخل المحكمة مفاجأة لأنه كان أول من فضح محاولة التأثير عليه لتوريط زملائه مقابل إطلاق سراحه.
كما أن عبد الرحمن اليوسفي أيضا كان قد فضح محاولة استقطابه لكي يصبح مخبرا في الملف ضد زملائه الذين حضر أغلبهم الاجتماع بينما غاب عنه آخرون.
إذ شكل غياب النقابيين بالإضافة إلى غياب عبد الله إبراهيم، نقطة خلاف كبيرة في أوساط الاتحاديين وصلت حد التشكيك في ولاء هؤلاء للحزب.
الأحداث التي أتت بعد محاكمة يوليوز 1963، كشفت فعلا أن هناك تحركات في اتجاه العمل المسلح، خصوصا بعد أن بقي عبد الرحمن اليوسفي خارج البلاد بالإضافة إلى قيادة محمد الفقيه البصري للمعارضة في الخارج، واختطاف المهدي بن بركة، والتصعيد الكبير للمعارضة، والذي وصل حد اتهامهم بربط علاقات مع دول معادية للمغرب وعلى رأسها ليبيا والجزائر، وكلها عوامل زادت من حدة الاتهامات باستهداف النظام في المغرب.
لكن طي الصفحة في تسعينيات القرن الماضي، كشف أن التوتر السياسي لعب دورا كبيرا في تزكية تلك الاتهامات، وأن المصالحة في الأخير أدت إلى مشاركة أبرز القيادات التي توبعت في مؤامرة يوليوز، في حكومة التناوب.
الاجتماع الذي لن يُنسى.. كواليس حصرية
16 يوليوز 1963. صباح لم يكن عاديا. إذ أن كل أعضاء قيادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كانوا يستعدون مبكرا لحضور اجتماع اللجنة المركزية في الدار البيضاء. تحركت الهواتف مع اقتراب منتصف النهار، وقرر البعض ألا يحضروا وتذرعوا بانشغالات أخرى، بينما الذين قرروا أن يجلسوا على منصة اللجنة، كانوا على موعد مع تجربة اعتقال غير مسبوقة في تاريخ علاقة الأحزاب السياسية بأجهزة الأمن.
لا حديث في المغرب يومها إلا عن الاستعداد للانتخابات البلدية والقروية (الاستحقاقات المحلية). إذ أن موقف الحزب منها كان متشددا خصوصا وأن ممثليه في الأقاليم، وقفوا على حالات خرق واستمالة للناخبين خارج قواعد الانتخابات. وهكذا قررت قيادة الحزب عقد اجتماع للمجلس الوطني، حيث تقرر ضم قيادات على المستوى الوطني ممثلين للكتابة العامة للحزب واللجنة الإدارية بالإضافة إلى أعضاء المجلس الوطني، داخل القاعة التي احتضنت اللقاء التاريخي.وهكذا أصبحت القاعة موضوع مراقبة أمنية مشددة لإحصاء ومعرفة أسماء الحاضرين جميعا.
ومع حلول المساء، كان المُجتمعون قد بدؤوا يشعرون بالإنهاك. كان عبد الرحيم بوعبيد يخطب من المنصة، ويدعو الحاضرين إلى التكتل حول موقف موحد للحزب وهو مقاطعة الانتخابات حتى يبعث للدولة رسالة مفادها أن الحزب يستنكر هيمنة «الفديك» على تلك الانتخابات.
وبينما كان القياديون منهمكين في الخروج بصيغة نهائية للبيان الذي سوف يُتلى في القاعة أولا ثم يعمم على الرأي العام من خلال جريدة الحزب، إذا ببعض القياديين ممن كانوا يراقبون محيط القاعة حيث يجري الاجتماع، قد فطنوا إلى تحركات غريبة من رجال الأمن. فما كان منهم إلا التوجه إلى الزاوية حيث كان عبد الرحيم بوعبيدبالإضافة إلى عبد الرحمن اليوسفي، وعمر بنجلون، يناقشون بمعية قيادات أخرى مضامين الفقرات، وأخبروا عبد الرحيم بوعبيد بالأمر، وبدا أنه لم يُفاجأ. فقد كان موقف الحزب من الانتخابات واضحا، وبات متوقعا أن يقاطعها، خصوصا أنه خرج للتو من الانتخابات البرلمانية حيث سجل الحزب بشكل واضح عدم رضاه عن النتائج.
كان بعض الحاضرين في القاعة نوابا برلمانيين، وأحدهم كان عبد الواحد الراضي حيث تحدث بالتفصيل عن الواقعة في مذكراته. وظن بعض الشباب أن البرلمانيين الذين معهم قد تشفع لهم حصانتهم البرلمانية، لكن الأمر كان عكس المتوقع. إذ تم اعتقال الجميع واقتيادهم إلى كوميسارية المعاريف بالدار البيضاء.
من بين الحاضرين، كان هناك نقابيون أمثال الراحل سعد الله صالح. هذا الأخير، سبق له أن صرح لـ«الأخبار» بتفاصيل تتعلق بالاجتماع خلال تصوير فيلم وثائقي عن حياة المعارض الحسين المانوزي. وهناننقل إفادته التي سننشر مضامينها لأول مرة بعد أشهر على وفاته. يقول سعد الله صالح إنه كان حاضرا في المجلس الوطني وكان ممن تلقوا دعوة الحضور. وعندما كان يشتغل في إطار عمل اللجان على التنسيق بين الأعضاء ونقل الأوراق إلى المنصة حيث كان عبد الرحيم بوعبيد جالسا برفقة عبد الرحمن اليوسفي وقياديين آخرين، في غياب محمد الفقيه البصري الذي اتضح لاحقا أنه لم يحضر الاجتماع لأنه كان مبحوثا عنه بغية إلقاء القبض عليه قبل الاجتماع، ولم يلتق به بقية القياديين إلا في دار المقري، ومنهم لم يستوعب صدمة أن يكون هذا القيادي البارز في الحزب ضيفا على المعتقل بدوره رغم مكانته الاعتبارية. إذ جرى اعتقاله ليلا وهو في سيارته، بعد يومين على الاجتماع، وألحق ببقية المعتقلين في 18 يوليوز.
يقول صالح إنه أحس بتعب وخرج لاستنشاق بعض الهواء النقي خارج القاعة. فإذا به يلمح رجل أمن قادما في اتجاهه يأمره بالعودة إلى الداخل وإغلاق الباب. وقبل أن يمتثل سعد الله صالح جال ببصره قليلا ليلمح وجود تعزيز أمني يطوق المكان تماما.
نقل صالح المعلومة إلى عبد الرحيم بوعبيد الذي كان في غمرة الحديث عبر الميكروفون مع الحاضرين. فاضطر صالح إلى الكتابة على قطعة من الورق، بخط يده محذرا عبد الرحيم بوعبيد مما ينتظرهم. وعندما أخذ بوعبيد الورقة واطلع عليها، صمت لثوان عن الحديث قبل أن يواصل ما كان بصدده وينظر إلى الحاضرين نظرة ذات معنى.
يقول عبد الله صالح إن بوعبيد قال كلمة معناها أنه مستعد لأي تطورات قد تقع بعد ذلك الاجتماع. لكن الحاضرين وقتها لم يكونوا يعرفون أنهم سيكونون بعد دقائق فقط في طريقهم إلى كوميسارية المعاريف ومنها إلى التحقيقات في المعتقلات السرية حيث جرى تعذيب المئات على خلفية ملف مؤامرة إسقاط النظام. وهي التهمة التي وُجهت إلى الذين حضروا الاجتماع وقيادات أخرى لم تكن حاضرةفي القاعة.
أسرار من المؤامرة ..ضجيج سبق العاصفة
المعروف أن الهدوء يسبق العاصفة. لكن في حالة ملف مؤامرة يوليوز 1963، فإن العاصفة كانت مسبوقة بضجيج وجس للنبض قبل أن تبدأ حملة الاعتقالات وتوجيه التهم بشكل رسمي لمئات القياديين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمحاولة قلب النظام وتهديد الأمن الداخلي للبلاد وإدخال السلاح والتخطيط لمؤامرة.
ما الذي وقع إذن؟ كان المغرب يعيش في يوليوز 1963 على إيقاع مرور أولى المحطات الانتخابية في تاريخ المغرب مباشرة بعد الاستفتاء الأول على أول دستور للمملكة في عهد الملك الحسن الثاني أقل من سنتين على جلوسه على العرش.
كان الاستفتاء على الدستور نقطة خلاف بين الدولة وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إذ أن الحزب دعا إلى رفع شعار «لا» للدستور ووصفه بالدستور الممنوح رغم أن الداخلية خصصت حملة إعلامية على أمواج الراديو، بشكل غير مسبوق في تاريخ المغرب، للترويج لمضامين الدستور الجديد.
ومباشرة بعد إقرار أول دستور رسمي للمملكة، جرت انتخابات 17 ماي 1963، حيث صوت المغاربة على ممثليهم في البرلمان. وعرفت هذه الانتخابات تضييقا كبيرا على حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي ازدادت شعبيته خصوصا في أوساط العمال ورجال التعليم، إذ أن بعض مرشحيه عاينوا بأنفسهم التضييق خلال الحملة الانتخابية التي هيمن عليها وزير الداخلية وقتها، أحمد رضا اكديرة، الذي كان بالإضافة إلى منصبه في الوزارة ومكانته في الدولة، متزعم جبهة «الفديك».
وهكذا فقد وضعت آليات الدولة خلال الحملة الانتخابية لمرشحي «الفديك»، في المقابل منع عدد كبير من مرشحي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من ممارسة أنشطة حملتهم الانتخابية.
وحتى في يوم الإعلان عن النتائج، فقد كان وزير الداخلية يمارس ضغطا كبيرا للإعلان عن فوز مرشحي حزبه بالمقاعد البرلمانية في أقاليم لم ينته بها الفرز، وهو ما شكل نقطة خلاف كبيرة تطورت إلى أحداث اشتباكات في بعض المناطق احتجاجا على التزوير الواضح للانتخابات. إذ كان أعوان السلطة يتلقون أوامر هاتفية بالإعلان عن فوز مرشحين بعينهم قبل انتهاء عدّ الأصوات. وهو ما نشرت وقتها صحافة الاتحاد التي كان يشرف عليها عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري تفاصيل مثيرة بخصوصه.
أمام هذا الاحتقان، كان واضحا أن بعض الجهات داخل الدولة لم تكن راضية على الاكتساح الكبير الذي حققه حزب يتزعمه كل من المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم.
وعندما جاءت الاستحقاقات الجماعية المحلية، كان مخطط تدمير الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من الداخل قد بدأ، خصوصا أن بعض المنتمين للحزب كانوا من قدماء المقاومة الذين مارسوا العمل المسلح في مواجهة فرنسا، فكان من السهل مزج الأوراق، ووجهت التهمة رسميا لقياديي الحزب بالتخطيط لمؤامرة تستهدف المغرب وجرت حملة اعتقالات واسعة لهذا السبب.
بوعبيد والآخرون.. وزير في قلب الكوميسارية
كان عبد الرحيم بوعبيد من بين المعتقلين داخل القاعة. ولم تشفع له مكانته ولا علاقات الصداقة والمعرفة التي تربطه بشخصيات أمنية لكي يتم استثناؤه. بل لم تشفع له حتى صداقته المعروفة لدى الجميع مع الملك الحسن الثاني منذ سنوات شبابهما.
إذ جرى الاستماع له في قلب كوميسارية المعاريف، قبل أن يطلق سراحه بعد ساعات. وتم الاحتفاظ ببقية المعتقلين رهن الحراسة النظرية، قبل أن يتم تحويلهم إلى دار المقري حيث اختبر بعضهم لأول مرة في حياته أجواء المعتقلات السرية والتعذيب على خلفية التآمر على النظام والتخطيط لتخريب مسلح في البلاد.
من المواضيع التي بقيت طي الكتمان، إطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد الذي كان وزيرا في أولى الحكومات المغربية منذ 1956. ورغم أنه كان يعرف وزير الداخلية ويتناولان العشاء في مناسبات كثيرة إما في إقامة الأمير مولاي عبد الله أو في ضيافة الملك الراحل الحسن الثاني، فإن بوعبيد وجد نفسه في تلك الليلة العدو الأول للمسؤولين في كوميسارية المعاريف.
وعندما أطلق سراحه، جرّ الأمر حملة داخلية ضد بوعبيد، خصوصا من طرف ممثلي الذراع الطلابي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. بل تمت مهاجمة عبد الله إبراهيم أيضا لأنه لم يحضر المجلس الوطني رغم أنه كان قياديا بارزا ويتحمل مسؤولية كبيرة داخل الحزب. وهكذا فقد بقي حديث الهمز واللمز لأسابيع داخل أروقة الاتحاد، وهو أمر تم تفسيره لاحقا بأنه كان مقصودا، لخلق نوع من الفتنة داخل الحزب. إذ أن إخلاء سبيل عبد الرحيم بوعبيد مبكرا كان الهدف منه تحطيم نفسية الموقوفين. بينما مُنع عبد الله إبراهيم من الاقتراب من القاعة، وهي المعلومة التي أكدها أكثر من مصدر. فعبد الله إبراهيم الذي أقيلت حكومته منذ 1959، كان يعرف الأساليب الأمنية جيدا، خصوصا أنه مر بتجارب مع أول مدير عام للأمن الوطني في المغرب، ويتعلق الأمر بمحمد الغزاوي، الذي كان يضع دائما سيارة مراقبة لصيقة بعبد الله إبراهيم وهو وزير أول، تراقب كل تحركاته أولا بأول.
وهكذا فإن عبد الله إبراهيم أحس أن شيئا ما يُطبخ لإنهاء اجتماع المجلس الوطني للحزب في الدار البيضاء، وعرف لاحقا أنه لم يكن مسموحا له بالحضور أصلا لأن البوليس كان قد طوق المكان. بينما يقول اتحاديون آخرون إن عبد الله إبراهيم عندما سُئل لماذا لم يحضر الاجتماع في الدار البيضاء أخبرهم في تلك الأجواء الملتبسة أنه لم يتوصل بأي استدعاء للحضور. وهو ما زاد من تعقيد مواقف بعض القيادات الذين لم يجر اعتقالهم رفقة عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري، وآخرين..
كما أن عبد الواحد الراضي، الذي كان وقتها أحد أبرز الشبان الذين فازوا بمقاعد في برلمان سنة 1963، كان من بين المعتقلين. فقد ظن زملاؤه في الحزب أن الحصانة البرلمانية التي لديه، بصفته برلمانيا جديدا عن إقليم بنسليمان، قد تشفع له لكي يتجنب الاعتقال والتعذيب، لكن البرلمانيين الذين اعتقلوا مثلهم مثل بقية القياديين وممثلي فروع الحزب في الأقاليم، جُروا جميعا إلى التحقيق، بل وكانوا ضيوف جلسات التعذيب الشهيرة في درب مولاي الشريف، حيث قضى الراضي فترة اعتقال وتعذيب قبل أن يطلق سراحه رفقة آخرين.في حين وجهت للقيادات تهمة المس بالنظام والتخطيط لقلب النظام وقيادة عمل مسلح داخل البلاد.
بخصوص المهدي بن بركة، فقد كان خارج المغرب، والسبب أنه لم يكن راضيا عما وقع في انتخابات ماي 1963، وقرر المغادرة. وهناك من روج لنظرية أخرى مفادها أن المهدي بن بركة تلقى إشارات بخصوص إمكانية محاولة أخرى لاغتياله بعد نجاته بأعجوبة سنة 1962 من محاولة دهسه قرب واد الشراط.
وقد كان من منفاه الاختياري، يستنكر اعتقال أبرز قيادات الحزب الذي يقوده والزج بهم في المعتقل السري والتحقيق معهم في انتظار بدء المحاكمة التي لم تنطلق إلا في نونبر 1963، أي بعد أشهر من الاعتقالات.
أسرار أمنية أتلفت من الأرشيف
عندما كانت تجري أطوار المحاكمة، كان الجنرال أوفقير يستعد لكي يمسك بزمام الإدارة العامة للأمن الوطني ويجمع بينها وبين منصبه العسكري، وهو ما كان وقتها سابقة في تاريخ المغرب.
إذ أن الجنرال أوفقير المشرف على شؤون الجيش، كان أول العسكريين المغاربة الذين يلجون المناصب السياسية التي يسيرها المدنيون.
ثم لحقه جملة من العسكريين الذين توزعوا على العمالات والأقاليم. وأحد هؤلاء كان هو الكولونيل المذبوح الذي تعين هو الآخر في منصب عامل الدار البيضاء وجمع بين منصبه ورتبته العسكرية الرفيعة.
وهكذا فقد استدعي إلى المحاكمة للإدلاء بشهادته. ورغم أنه قاد بعد سنوات أعنف انقلاب عسكري دموي في تاريخ المغرب، إلا أنه يومها ساهم في «إغراق» المتهمين الذين كان على رأسهم عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري، وكان ينوب عنهما عبد الرحيم بوعبيد بحكم أنه كان محاميا قبل أن يصبح وزيرا. إذ أن بوعبيد عندما أفرج عنه، أصبح همه الشاغل هو المرافعة عن زملائه المعتقلين.
كانت شخصية الكولونيل المذبوح قد أصبحت موضوع كراهية كبيرة في أوساط الاتحاديين الذين حضروا المحكمة، ببساطة لأنه لم يحضر لكي يدلي بشهادته، واعتذر بوجوده في مهمة خارج المغرب. لكن الأقاويل وقتها تحدثت عن تواطؤ للمذبوح بالصمت، رغم أنه كان بإمكانه الحضور وتكذيب صك الاتهام الخطير ضد الفقيه البصري على الخصوص، لأن هذا الأخير اتُهم بالتخطيط لاقتحام القصر الملكي. وكانت شهادة الكولونيل المذبوح على قدر كبير من الأهمية لأنها سوف تطعن، إن كان صادقا في ما سيدلي به، في التهم جملة وتفصيلا. وما زاد من سخط الحاضرين على الكولونيل المذبوح، أن رسالة تُليت في قاعة المحكمة بعد أن قالت النيابة العامة إنه أرسلها معتذرا عن الحضور. وهنا تساءل عبد الرحيم بوعبيد عن مصداقية الرسالة ومدى ارتباطها فعلا بالكولونيل. ولو أنه حضر لما تُرك المجال لصياغة شهادة الغرض منها إغراق المتهمين.
ومن بين الذين تم استدعاؤهم للشهادة ضد المتهمين، نجد أيضا شخصيات مثل مولاي مصطفى بن العربي العلوي الذي أصبح بعد تلك الأحداث بعشرين سنة وزيرا للعدل، والذي لم يحضر المحاكمة بدوره. فقد وجد عدد من الشهود، مدنيين وعسكريين، أنفسهم في موقف محرج للغاية، خصوصا أنه كان يتعين عليهم مواجهة أصدقاء لهم في المنصة، وكان واضحا أن الدولة كانت تريد إغراقهم في التهم الموجهة إليهم. وهكذا لم يحضر العلوي إلى المحاكمة. واستمرت الجلسات شهرا إضافيا تقريبا قبل أن تصدر أحكام قاسية بالإعدام في حق كل من عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري ومومن الديوري وعمر بن جلون، فيما توزعت أحكام بالسجن المطول على بقية المُدانين، قبل أن يصدر عفو عن الجميع في إطار انفراج سياسي، لم يفلح في إزاحة الجروح القديمة. لتبقى مؤامرة يوليوز من بين الأسرار الأكثر غموضا.
إذ بعد حل الجهاز الذي كان يشرف عليه الجنرال أوفقير، سنة 1973، وتحولت الملفات السرية إلى يد جهاز آخر تأسس على أنقاض «الكاب 1» الذي أشرف على عملية التحقيق في مؤامرة يوليوز 1963، كان الملاحظ أن ملفات تتعلق باتهامات مؤامرة يوليوز قد أتلفت ولم يعد لها أي وجود في الأرشيف. أي أنها ماتت مع تلك الفترة التي كان المعارضون الاتحاديون القدامى يصفونها بـ«الأوفقيرية».