شوف تشوف

الرئيسيةدين و فكر

الأحاديث الحيوية:علاقة الأخلاق بالغذاء.. الحجر الصحي.. الاجتهاد أم التقليد 

بقلم: خالص جلبي 

 هذا المشروع حلم عندي منذ أن اشتغلت على كتاب «زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم»، حيث حفظت منه مئات الأحاديث، كذلك حينما عملت على صحيح البخاري. أما علم الحديث فقد استفدت من الشيخ (عبد الرزاق الحلبي)، إمام جامع القطط، فأخذت هذا العلم أيضا على يديه رحمه الله رحمة واسعة.

 يشابه كتابي هذا ما كتبه النووي القديم في الأربعين حديثا، وقد اشتغلنا عليه عندما كنا شبابا وحفظنا ما جاء فيه من أحاديث. والمهم فقد مضت سنة الأولين، وجهده مشكور، ولكن لا بد من وضع مشروع مواز يشبهه من جهة ويختلف عنه من وجوه، ونحن نعيش عالم الديجيتال

 

من الأربعين النووية إلى المائة الجلبية

(1) حديث علاقة الأخلاق بالغذاء 

(أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم). 

(رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة). 

يمكن قراءة هذا الموضوع في مقدمة ابن خلدون عن تأثير الغذاء والهواء في أخلاق البشر. نلاحظ هنا ثمة انعكاس معين من غذاء معين على تشكيل الأخلاق، بالطبع هذا يشكل بوابة مهمة لكشف العلاقة بين الغذاء والأخلاق. في الوقت نفسه يلقي الضوء على تحريم أكل لحم الخنزير أو الدم المسفوح. وانتبه ابن خلدون في مقدمته إلى هذه العلاقة. 

(2) حديث الحجر الصحي في الأوبئة

(إذا سمعتم الطاعونَ بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها). (متفق عليه). 

هذا الحديث فهمناه على شكل عملي حينما ضربت الأرض جائحة كورونا التي أخذت اسم «كوفيد- 19»، وهي تشابه ما وقع للبشر عام 1918، واتفق الناس على أن أفضل مكافحة لها هي التباعد الاجتماعي، وإلا مات الناس كالذباب، وهو ما وقع في جائحة عام 1918م.

(3) الاجتهاد أم التقليد 

(إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ). (البخاري). 

هذا الحديث بوابة رائعة للعمل العقلي فهناك أجر لمن يعمل عقله، حتى لو أخطأ. فمع الخطأ أجر واحد، ومع الصواب الأجر مضاعف. وهذا يحمل ضمنا أن من أصاب بدون اجتهاد فلا أجر له. كله من أجل تنشيط العقل الكسيح، لاكتشاف مصادر الصحة من الخطأ. وبالطبع فهناك حديث خطير للقضاة، أنهم ثلاثة اثنان في النار لمن جهل فحكم، ولمن عرف فحكم ظلما، والثالث من عرف فحكم عدلا فهو في منجاة.

(4) مفهوم توقف الزمن مع التحول إلى كائنات نورانية 

(أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة -عود الطيب- أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء). (متفق عليه). 

نحن نعرف من النسبية أننا إذا اكتسبنا سرعة الضوء يتوقف الزمن فندخل الخلود، كذلك من آية سورة «آل عمران» عن جنة عرضها السماوات والأرض. هنا تدخل النسبية العامة على الخط، فمن وقف على كتلة لانهائية يتوقف الزمن من جديد فوقها.

(5) مبدأ الاشتراكية في الأزمات 

(إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم). (متفق عليه). 

في هذا الحديث تظهر روح المشاركة على نحو اشتراكي، بل إن رسول الرحمة يقول: أنا منهم وهم مني.

(6) المظاهر الكونية من كسوف وخسوف وتفسيرها 

لما مات إبراهيمُ، ابن النبي ، وكان في الرضاع، كان دون السنتين، قال بعضهم لما كسفت الشمس ذلك اليوم قال بعض الناس: كسفت الشمسُ لموت إبراهيم. يعني: لعظم المصيبة، وقال النبي : لا، لم تنكسف لأجل إبراهيم، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته لا إبراهيم ولا لغيره. (متفق عليه). 

واستفاد نبي الرحمة (ص) من الظاهرة، فوجههم إلى أمر عملي فشرع لهم صلاة الكسوف والخسوف، وفي هذا الصدد تذكر قصة عمر وفتاة النيل، حيث كان المصريون قبل الفتح الإسلامي يستعطفون النيل حتى يفيض سنويا، فأرسل عمر رضي الله عنه على طريقتهم كتابا يخاطب فيه النيل محتواه: يا نيل إن كنت تجري بسنة الله فاجري كما كنت تجري، وإن كنت تجري بسنة الشيطان فلا حاجة لنا في جريانك. وأبطل تلك العادة القبيحة السنوية، بإلقاء فتاة في لجة النيل العظيم. وفي هذا الصدد نذكر خدعة كريستوفر كولومبوس لأهل الجزيرة مع الخسوف، وأنه يتصل بالآلهة، فخافوا وأعطوه ما أراد، وانقشع الكسوف كما هو معروف. وتحت هذه الظواهر الطبيعية يمكن فهم مظاهر شتى من التسونامي والطوفان وسواهما وكيف تفسر؟ وهنا يسجل الحديث النبوي سابقة رائعة، لفهم الحوادث ومظاهر الطبيعة ودوران الشمس والقمر والكسوف أو الخسوف، ونحن اليوم نفهم الظاهرة بكل بساطة.

(7) باب هلاك الأمم 

يصف القرآن المجتمع الفرعوني أنه طبقات، ثمة طبقة تستبيح أخرى. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم. وحين لا يبق مجتمع مواطنة، فهو مؤشر إلى سير المجتمع في ليل التاريخ. وحين بدأ رسول الرحمة (ص) في بناء مجتمع جديد، انضم إليه صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي، بلون جلود تتراوح من أشد البياض إلى أشدها سوادا. كانت دعوة أممية، ولم تكن جاهلية ولا قبلية ولا عائلية. وأول الأمور التي فعلها رسول الرحمة (ص) في المدينة ثلاثة، بناء قلب المجتمع المسجد، ونهاية القبلية فلم يبق أوسي وخزرجي وقرشي، بل إخوة مهاجرون وأنصار، ثم بناء مجتمع المواطنة بالمواثيق مع اليهود بثلاث مجموعات، بنو النضير، بنو قينقاع وبنو قريظة. وبذلك انتهينا من بني أمية ومن التشيع ومن الدم. إلا أن هذا لم يدم، وسجل لنا التاريخ فشل التجربة بسرعة. فولدت بيزنطة بمعطف قبلي، وفارس بعباء حسينية، والدمويون داعش القديمة. وعند حافة معركة صفين نسمع قول عقيل، أخو علي رضي الله عنه يقول: إن صلاتي خلف علي أقوم لديني، وإن معاشي مع معاوية أقوم لحياتي. وبذا ينشطر الضمير وما زال. ويبقى السؤال لماذا؟

الحديث الذي بين يدينا يفتح عيوننا على بوابة الجحيم: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ثم يقسم رسول الرحمة أنه سينفذ القانون ولو على ابنته. 

حاليا نلاحظ هذا نحن من يعيش في كندا، أنا متيقن لو أن جاستن ترودو خالف إشارات المرور، فسوف تلحقه (تيكت) غرامة المخالفة، فالقانون يسود. أما في الشرق المنكوب، فمن يحكم هي علاقات مريضة، ولذا فهي تدفع ثمن المخالفة. وإليكم الآن الحديث:   

إنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: أتَشفَعُ في حدٍّ مِنْ حُدودِ الله؟ ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم: أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وَأيْمُ الله لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا. (صحيح النسائي). 

(8) مفهوم المسؤولية على شكل سفينة 

مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا. (البخاري). 

هنا نجد النية الطيبة بتعبير (ولم نؤذ من فوقنا)، وهذا يقول إن الطرق إلى جهنم محفوفة بالنوايا الطيبة الصالحة. والخلاصات التي ننتهي إليها من الحديث أيضا ثلاث: الانتباه إلى أخطاء الأفراد، والمبادرة الفردية، وأن خلاص الجميع هو أمر مشترك. 

في قضية المبادرة الفردية تحضرني أفكار عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، أنها أحد ثلاثة عناصر في النهضة الأوروبية. وفي قضية أننا كائنات اجتماعية ومصيرنا مشترك، استفدت فيها من مقدمة ابن خلدون، حين يتحدث عن ضرورة المجتمع، وكذلك كتاب بيتر فارب من سلسلة «عالم المعرفة»، بعنوان «بنو الإنسان»، ومعنى العائلة والمجتمع للفرد. وأكثر من هذا حينما يتحدث مالك بن نبي الجزائري في كتابه «ميلاد مجتمع»، كيف تولد وكيف تموت وبالأخطاء، أو ما يسميها المؤرخ توينبي على الانهيار والانتحار الداخلي. 

ثلاث حقائق يجب أن نفهمها أننا كائنات اجتماعية، وأن حظوظ الفرد في الدنيا تعود إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وأخيرا أن أغلاط الأفراد قد تؤدي إلى نكبة اجتماعية. ويترتب على هذا عدم السكوت عن الانحراف، لأن النتيجة سوف تنعكس على الجميع.

لنتذكر الآية: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)؛ فحين يقع الظلم ويسكت الناس عنه يصل في النهاية إلى كارثة للجميع، وهو ما حصل في السرطان البعثي بسوريا. فحين سكتوا عن الانقلاب العسكري عام 1963م، دفعوا الثمن في تدمير مدينة حماة، ومقتل 40 ألفا، لحقهم مثلهم عددا في السجون والمعتقلات. ولما سكت المجتمع السوري عن مذبحة حماة، دفع الثمن في ثورة 2011م، فقتل مليون، وهام على الوجوه في زوايا الأرض الأربع 15 مليونا. ولما سكت العالم عن الكارثة السورية، غضبت الطبيعة على الجنس البشري، فضربت الأرض جائحة كورونا.

لتفكيك هذه المفاهيم التأسيسية نورد حديث السفينة.

لنتصور أن مجموعة من الركاب في رحلة نهرية على ظهر سفينة، وضربهم العطش. كان النهار قيظا ودرجة الحرارة عالية. السفينة كبيرة تضم طابقين وهي من النوع الخشبي. كان الماء على ظهر السفينة في مستودعات، ومنه يتم توزيع الماء على الركاب لمن يطلب. ويبدو أن المشرفين على توزيع الماء مزعجون غير متعاونين مع عطش القوم وطلباتهم، كانت حركة الصعود مرهقة للبعض في ترداد متكرر. جلس القوم يتحدثون، انبرى أحد الحاضرين وقال: يا قوم يعجبني هذا الماء الذي نعوم فوقه، ما رأيكم بدل الصعود والنزول في درجات متعبات أن نقوم بثقب بسيط هنا، ولن يتأذى أحد. هو مجرد ثقب صغير مباشرة على الماء، فنحن على مسافة قصيرة من نبع الماء. لماذا القفز لفوق وتحت كل مرة، دعونا نخرق خرقا في السفينة ولن نؤذي من فوقنا؟ وهو على كل حال القسم الذي يخصنا ولن نؤذي أحدا، فنحن أحرار في القسم الذي نجلس فيه، أليس كذلك؟ هز القوم رؤوسهم، خاصة ممن لا يتفحص العواقب وقالوا: فكرة معقولة! كانت السفينة مقبلة على كارثة على هؤلاء الحمقى المجتهدين. لكن آخرين عارضوا وقالوا: ويلكم لو فعلنا هذا فالغرق في انتظار الجميع، وليس ثمة مكان مخصص لقوم دون قوم، مصيرنا واحد. يقول الحديث: إذا لم يقم الواعون بالانتباه إلى مثل هذه الحركات الغبية، يدفع الجميع ثمن الخطأ الذي يقوم به بعض الأفراد.

 

نافذة:

حين يقع الظلم ويسكت الناس عنه يصل في النهاية إلى كارثة للجميع وهو ما حصل في السرطان البعثي بسوريا

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى