الأبيض : الحسن الثاني أمر بدفن جثامين الوزراء والمراسيم كانت مؤثرة
حاوره: يونس جنوحي
«اسمه محمد الأبيض. تجاوز عقده الثامن ببضع سنوات. ورث جوازا دبلوماسيا لم يدع رقعة في صفحاته العديدة إلا وتحمل طابع جمارك بلد ما.. منذ 1961 إلى أواخر سنة 1984، موعد آخر مهمة رسمية له في السلك الدبلوماسي والمخابرات الخارجية، وهو يحلق بين المطارات، ويسافر بالسيارة عبر الحدود. رافق الجنرال الدليمي في بيروت وبسبب تلك «الرفقة» أصبح مطلوبا منه التعاون مع جهاز الدليمي الذي وجهت له أصابع الاتهام في قضايا اختطاف معارضين مغاربة في الخارج.
رافق الجنرال الدليمي، وقبله الجنرال أوفقير مرة واحدة فقط في تونس، أثناء زيارات العمل التي قام بها وزراء وعسكريون، إلى مختلف العواصم حيث كان باعتباره موظفا في السفارة يتولى مهام أمنهم وتحركاتهم بالإضافة إلى كتابة التقارير إلى الرباط.
طلب إعفاءه ليركز فقط على عمله في السفارة، خصوصا عندما عين أمينا للسر في السفارة المغربية في روما، لكن الجنرال الدليمي أمره بالبقاء رهن إشارة «اللجنة العليا للدفاع الوطني»، وعندما تم تأسيس «لادجيد» اشتغل أيضا لصالح الجهاز.
محمد الأبيض، علبة أسرار حقيقية، تعيش في ذاكرته وبين صفحات جوازه وشاراته الدبلوماسية، يحكي في أول خروج إعلامي له على الإطلاق، تفاصيل يوم 17 دجنبر 1973 المأساوي في مطار روما بإيطاليا، حيث كان في مهمة توديع وفد الوزير الأول السيد عصمان أثناء توجهه من روما إلى طهران في ضيافة شاه إيران الذي كان صديقا للمغرب. حلّقت طائرة الوزير الأول، بينما بقيت طائرة أخرى تنتظر الإقلاع على متنها وزيران وموظف سام، ومغاربة. كان يتعين على محمد الأبيض توديعهم، وفق أعراف السفارة، قبل أن يلمح منفذي الهجوم يهرولون في اتجاه الطائرة لتحويل ركاب مقدمتها إلى أشلاء.. محمد الأبيض يستحضر ذلك اليوم المأساوي، ويعيد في هذا الحوار الحصري لـ «الأخبار» تركيب الأحداث»..
– قبل أن تكمل لي كيف طوي ملف حادث مقتل المسؤولين المغاربة، أريد أن أعرف منك معلومات عن لقاءات الجنرال الدليمي في الخارج. هل صحيح أنه التقى شخصيات من الجيش الجزائري في أوربا؟
+ نعم. وقد رافقته شخصيا إلى تلك اللقاءات.
– ماذا كان يدور خلالها؟ هناك من يتهمه بأنه كان يعد لانقلاب ضد الملك الحسن الثاني.
+ لا يمكن أن أتطاول وأخبرك أنني كنت أعرف. لقد كنت أرافقه فقط في إطار مهمتي، ولم أكن أجلس معهم في طاولة واحدة لكي أعرف ما يقع. لكن أريد أن أقول إن الجنرال الدليمي كانت له علاقات متشعبة جدا وكان تقريبا يلتقي بكل الأطياف. لقد قلت لك إنه كان يلتقي أحمد رامي الذي كان مناصرا للضباط الطيارين الذين استهدفوا طائرة الملك الراحل، وكان الدليمي بين ركاب الطائرة. وحتى الذين اتهموه بالوقوف وراء اختفاء الحسين المانوزي أخبرتك أنني شخصيا نقلت أظرفة مالية من الجنرال إلى المانوزي.
– مبالغ مهمة؟ ماذا كان الغرض منها؟
+ كانت مساعدة من الجنرال، وكان يقول لي أن أبلغه أن يتوقف عن أنشطته المعارضة ويعود إلى المغرب. لقد كانت بينهما سابق معرفة بدون شك، لأن المانوزي كان يحترم الجنرال أيضا. هذا ما أعرفه.
– الهجوم على الطائرة قادته جبهة التحرير الفلسطينية وكان من بين أشهر المتعاطفين معها المدعو «كارلوس» الموجود الآن في سجون فرنسا بتهمة اغتيال شخصيات كبرى. هل صحيح أنه كان يخطط لاغتيال الملك الراحل الحسن الثاني؟
+ نعم كانت هناك معلومات تؤكد أنه يتعاون مع الجزائريين. لكني لم أعرفه لا من قريب ولا من بعيد. كنت أقرأ ما يُكتب عنه وعن دهائه ومكره.
– في ظل التسابق الاستخباراتي وقتها لرصد تحركات خصوم المغرب ومهددي وحدته الترابية، كانت هناك أنشطة في روما قادها جزائريون. ماذا تعرف عن هذا المعطى؟
+ كانت هناك حرب استخباراتية حقيقية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ضد هؤلاء المرتزقة الذين كانوا يحاولون شراء ولاء مغاربة للوصول إلى معلومات استخباراتية، وقد كنا نكشف عددا من تلك المخططات. وقد كنت شخصيا وراء كشف هوية أحد المتعاونين مع المخابرات الجزائرية وعوقب بالمؤبد قبل أن ينال عفوا من الملك الراحل الحسن الثاني، ووشحني رحمه الله بوسام.
– كيف انتهت قصة الاعتداء على طائرة «البانام» الأمريكية؟
+ بعد تعرفي على الجثامين، تابعت بصفتي الوحيد من السفارة المغربية هناك عملية نقلهم إلى مستودع الأموات وانتظرت الإجراءات الإيطالية لساعات طويلة، إذ لم يسمح لي بالحصول على تراخيص نقلهم إلا بعد الحسم اليقين من طرف الإيطاليين في هوية جميع من كان على متن الطائرة ومطابقتها للوائح التي تتوفر عليها شركة الطيران. وفي اليوم الموالي فقط، بعد ليلة بيضاء في مستودع الأموات لم أذق فيها طعم النوم، استطعت التوجه صوب المطار ثم إلى الرباط في طائرة خصصت لهذا الغرض، وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد أعطى التعليمات لكي يتم تنظيم جنازة تليق بالوزراء الذين توفوا في الهجوم، وعبر جلالته وقتها عن حزنه العميق، وانتشر في أوساط المسؤولين الكبار أنه رحمه الله قال: «لقد رزئتُ اليوم في ثلاثة من أبنائي». وقد حصلتُ على وسام آخر بالمناسبة. الملك الراحل رحمه الله وشحني ثلاث مرات في مناسبات متفرقة.
طيب سي «امحمد الأبيض» أريد أن أعيد معك ترتيب الوقائع. أنت تقول إنك كلفت بمهام سرية وأخرى تدخل في عمق عملك الدبلوماسي منذ بداية الستينيات إلى حدود الثمانينات. لنعد إلى أول مهمة كُلفت بها قبل حادث طائرة «بانام» 1973.
+أول مهمة كُلفت بها كانت عندما جاء الجنرال الدليمي إلى بيروت لكي يتابع بنفسه ملف الطلبة المغاربة هناك. وكان هذا خلال سنة 1965. كُنت أرى الناشطين ضد المغرب وبعضهم كانوا يجلسون في مقهى غير بعيد عن مقر سكني.
أختي رحمها الله كانت تعمل ممرضة في المستشفى، وكنت أعيش حياة مستقرة وطبيعية جدا في بيروت إلى أن جاء هذا الموضوع ونظمت مظاهرات أمام السفارة المغربية في لبنان. وهنا بدأت المشاكل. وبسبب تلك المظاهرة حدث أول تواصل بيني وبين الجنرال الدليمي وفريقه.
أنت تقول إن فريق الدليمي نطقوا اسمك أثناء احتجازهم للطالب الفلسطيني وكان يُردد اسمك في المستشفى أثناء اللحظات الأخيرة من حياته..
+وبسببه تورطت في المشاكل وقُتلت أختي على يد الطلبة انتقاما. كان يقول وهو على السرير: «الأبيض.. الأبيض». وكنت معروفا في السفارة المغربية. وطبعا لا يمكن أن تشرح لهؤلاء أنك موظف في السفارة ودبلوماسي.
عندما وقع المشكل اتصل وزير الخارجية السيد الشرقاوي وطلب رسميا أن أغادر التراب اللبناني برا. وهكذا حملت أولادي وزوجتي وغادرت لبنان ليلا في رحلة استمرت لأيام قطعت خلالها من تركيا إلى إيطاليا ومنها عدت إلى المغرب، ولا أنكر هنا أن السيد وزير الخارجية شخصيا اهتم بموضوعي. ووعدني أن يجدوا حلا للمشكل، قبل أن يصل خبر مقتل أختي رحمها الله لأنها رفضت أن تغادر معي لبنان وفضلت البقاء في عملها.
هل كنت تتوقع نهاية مسارك في الخارجية؟
+بالعكس ففي سنة 1966 سوف أقوم بتغطية نشاط زيارة دبلوماسية لعبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية وقتها، إلى مدينة طنجة للقاء وزير الخارجية المغربية السيد محمد الشرقاوي في إطار مفاوضات بين البلدين. واكتشفتُ أن بوتفليقة غادر سرا الفندق في غفلة من الحراسة لكي يعقد لقاء «غراميا». وغضب الملك الحسن الثاني عندما وصله التقرير وأمر بإنهاء المفاوضات.