الأباطرة الجدد
داود عمر داود
كان ملك فرنسا، لويس الرابع عشر، من أبرز الأمثلة على الاستبداد السياسي، عبرت عن ذلك المقولة المنسوبة إليه (أنا الدولة، والدولة أنا)، التي تعكس سلطته المطلقة، في فترة حكم مضطربة، امتدت لـ54 عاما. ويمتلك الحاكم الفرد في السلطة المطلقة، صلاحيات غير متناهية، مدى الحياة، بدون ضوابط دستورية، يمسك بكل السلطات بدون مساءلة، ويعامل رعاياه كالعبيد. لذلك تولد السلطة المطلقة في نفس الحاكم شعورا بالاستعلاء، والكِبر، وصفة التأله، مثل فرعون، الذي استخف قومه فأطاعوه.
وقد شجعت أفكار ميكيافيلي على ظهور السلطة المطلقة لدى ملوك أوربا. إلا أن الثورات الإنجليزية والفرنسية، وفصل الدين عن الحياة، وإبعاد الكنيسة عن السياسة، أدت إلى ظهور الفكر الليبرالي، الذي اعتمدته بريطانيا أولا، ثم سارت عليه باقي الأنظمة، في الغرب، حيث يجري انتخاب الحاكم، بصلاحيات مقيدة، مع محاسبة، وتحديد فترة حكمه.
وهذا ما اتبعته غالبية أنظمة الحكم، في العصر الحديث، فأصبح الرئيس موظفا براتب، ولفترة محددة، يغادر بعدها سدة الحكم. إلا أن الملفت للنظر في السنوات الأخيرة، أن دولا كبرى بحجم الصين وروسيا، قد حذفت من دساتيرها مدة ولاية الرئيس المحددة بفترتين، وجعلت منه حاكما مطلقا مدى الحياة، الأمر الذي أسال لعاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتمنى أن تجرب بلاده ذلك (يوما ما).
منذ عام 1949، بعد انتصار ثورة (ماو تسي تونغ)، يتولى الحزب الشيوعي مقاليد الحكم في الصين. وقد قاد (ماو) حكما مطلقا. وبعد وفاته، 1976، مرت البلاد بمرحلة انتقالية، اتجهت خلالها نحو الإصلاح السياسي، وكان من نتائجها الانقلاب على نهج حكم الفرد، والانتقال إلى نهج القيادة الجماعية، بموجب دستور 1982 الذي حدد ولاية الرئيس بفترتين متتاليتين، كل منهما 5 سنوات.
وفي عام 2014، تولى رئاسة الصين (تشي جين بينغ)، وما لبث أن انقلب على نهج القيادة الجماعية، فعزز قبضته على البلاد، وأسكت معارضيه، وقمع الحريات، إلى أن أقدم على تعديل الدستور، عام 2018، وألغى تحديد ولاية الرئيس بفترتين، فعاد بالبلاد إلى (حكم الفرد الواحد)، وعبادة الشخصية، الذي مارسه (ماو)، على مدى 27 عاما. ويبرر (تشي) رغبته في البقاء في الحكم أنه الوحيد القادر على استعادة الترابط الإيديولوجي، في البلاد، وتبييض سمعة الحزب الشيوعي، الملطخة بالفساد، والحيلولة دون تفككه، كحزب حاكم، ثم يطمح لإعادة الصين إلى (حقبة جديدة من القوة العالمية). ويضيف المراقبون إلى ذلك أنه يخشى من انتقام منافسيه، الذين نكل بهم وبعائلاتهم، خلال حملة تطهير أطاحت بـأكثر من مليون مسؤول، مدني وعسكري، من أبرز قادة الدولة.
كان فلاديمير بوتين ضابط مخابرات في سانت بطرسبرغ، قبل أن ينتقل إلى موسكو، ليدخل عالم السياسة عام 1996، وينضم إلى إدارة الرئيس السابق بوريس يلتسن، كمدير للمخابرات، ثم أصبح رئيسا للوزراء، ثم رئيسا لفترتين، 2000 – 2008. ثم عاد لتولي رئاسة الوزراء، فيما تولى الرئاسة حليفه ديمتري ميدفيديف. ثم عاد رئيسا عام 2012، لفترة ثالثة، وأُعيد انتخابه، في 2018، لولاية رابعة، من 6 سنوات، تنتهي عام 2024. ورغم أن الدستور الروسي يحظر على الرئيس الحكم لأكثر من ولايتين متتاليتين، إلا أن بوتين اقترح، في شهر مارس الماضي، تعديلا دستوريا، وافقت عليه المحكمة، يتيح له البقاء رئيسا لولايتين متتاليتين، بعد العام 2024، وحتى 2036، حيث سيكون في منتصف الثمانينيات من العمر، ويكون قد أمضى منها 32 عاما في الحكم.
لم يكن الدستور الأمريكي يحدد عدد الفترات الرئاسية، وجرى التقليد، منذ جورج واشنطن، أن يتم انتخاب الرئيس لفترتين. لكن عندما انتخب فرانكلين روزفلت 4 فترات متتالية، بدأت عام 1933، ثارت مخاوف النخبة من الحكم المطلق، فأجرى الكونغرس تعديلا دستوريا، حدد ولاية الرئيس بفترتين.
لكن المخاوف ثارت من جديد عندما رحب الرئيس الحالي، دونالد ترامب، بما قامت به الصين وروسيا، وتمنى أن تحذو بلاده حذوهما، في جعل ولاية الرئيس لفترات غير محدودة، قائلا: (رئيس مدى الحياة… أمر عظيم. يجب أن نجرب هذا يوما ما). مُظهرا بذلك نزعة قوية للتشبث بالسلطة بأي طريقة، كما وصلها بأي طريقة.
لكن تحول الصين وروسيا إلى (الحكم المطلق) جاء بهدوء وضمن إجراءات دستورية، أما في حالة ترامب فمن المستبعد أن يتمكن من تمرير تغيير كهذا دون معركة مدمرة. وها هو يستغل ظروف انتشار الوباء، لتصدر دعوات من مؤيديه إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية، هذا العام. ولما طرحت فكرة التصويت بواسطة البريد، رفضها ترامب، متهما بعض الولايات الكبيرة، مثل كاليفورنيا، بأنها ستلجأ إلى التزوير والتلاعب بالنتائج.
وهكذا أصبحت ديمقراطية أمريكا مهددة، من الداخل، وتواجه خطرا حقيقيا، في عهد رئيس بدأ يصطدم مع حكام الولايات، ويملي إرادته عليهم، متجاوزا صلاحياته الدستورية. فتصدى له أبرزهم، حاكم ولاية نيويورك، أندرو كومو، مُذكرا إياه (أن الرئيس ليست لديه صلاحيات مطلقة. فهناك دستور. وهو ليس ملكا، بل هو رئيس منتخب، ولا يمكن له أن يصبح ملكا بسبب حالة الطوارئ، ولا يمكن له أن يعطل الدستور. وسأتصدى له بالطرق القانونية).
يتضح أن سعي الرئيس الأمريكي، ليسير على خطى الرئيس الصيني والرئيس الروسي، أن يستحوذ على السلطة المطلقة في بلاده، هي لعبة محفوفة بأشد المخاطر، خاصة في ضوء حالة الانقسام السياسي الحاد، الذي تعانيه البلاد أصلا، في عهده.
وستتحول المواجهة بينه وبين خصومه، إلى معركة سياسية وقضائية صعبة، إن لم تتجه إلى أبعد من ذلك، فالحرب الأهلية الأمريكية ليست عنا ببعيد. وأخف نتائج المواجهة الحالية ضررا، أنها ستقضي على آمال ترامب في أن يعاد انتخابه لفترة رئاسية ثانية. ولن تزيد محاولته، استغلال ظروف الوباء، الطين إلا بلة. فأسلوب التحايل على دستور وقوانين البلاد، لن يمر دون معركة ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات.