شوف تشوف

الرأي

الآلة والحشرة والإنسان

إذا نفخنا بالبوق، صوَّت فكان له رجيع، وإذا ضغطنا زناد البندقية المعمَّرة، أطلقت النار فكان لها صوت مدوي، وإذا أمسكنا بالقلم فسطرنا، تدفق المداد بالكلمات. ليس أمام البوق أو البندقية أو القلم خيار، فهو مستلب الإرادة مغيب الوعي يستجيب لما نطلب منه، فيصوَّت البوق ويطلق المسدس الرصاصة بأي اتجاه، ويكتب القلم ما نوحي به.

إلى هنا كان الكلام عاديا، ويصبح محرما عندما نتساءل عن الإنسان العربي الذي تحول إلى ميكروفون ومسدس وقلم حبر فاخر، يكرر ما يطلب منه فيقتل على الأوامر، وينشد القصائد العصماء في مدح ولي النعمة القائد الملهم، وإذا كتب كذب بلا مبرر، ودون أن يطلب منه، وبشكل مقزز. وفي ملتقى للمثقفين في جامعة عربية، كان أول شيء فعل مثقف مرموق أن أطلق البخور لإبعاد أرواح الجان، فمدح رئيسا أو رئيسين من طغاة العالم العربي. وكما يقول الإنجيل: إذا كان النور الذي فيك ظلاما، فكم يكون الظلام؟ وإذا كان المثقف المدجن سيقود المواطن الأعمى، فهما مثل الأعمى الذي يقود الأعمى ليسقط الاثنان في الحفرة.

إذا طُلِب من الإنسان العربي أن يفعل أي شيء ضار وحرام ومخالف لضميره، نفذه بدون تردد قائلا: إنها الأوامر من سيدي لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب. وإذا طُلب منه أن يصفق ويهتف سابق بحركاته القرود، وإذا أُمر الجندي أن يهدم المقدسات ويرجم المدن بالصواريخ والأسلحة الكيمياوية فعل، وقد يفعلها وهو دامع العين، ولكنها الأوامر، فالجندي عليه أن ينفذ أولا، ثم يعترض في وصفة مقلوبة جدا، ولكننا اعتدنا منذ أمد بعيد أن نمشي على رؤوسنا بدون أن نشعر بالدوار.

إذا كانت السيارة والسكين لا تملكان الإرادة فتفعلان ما نشاء ولا تفعلان ما تشاءان؛ ويمكن لأي إنسان يعرف القيادة أن يسوق سيارة أي إنسان بدون ملكية، فإن الأمة عندما تفقد قدرة تقرير المصير تنتقل ملكيتها من يد مغامر إلى آخر، كما تمسك أي يد بأي نصل فتقطع به؛ فلم نسمع في يوم أن السكينة ناقشت صاحبها أن ما يفعله حرام أو ضار أو لا يجوز. كما لم تناقش أي سيارة من يُشَغلُهَا هل هو ذكر أم أنثى، يملكها أو لا؟ وإذا كان هذا يصدق على الآلة فهو يسري في عالم الحيوان المحكوم بسلاسل الغريزة؛ فالنحلة تتفاهم مع الأخريات بإيقاع الرقص في غريزة مطبقة، وإذا خطر في بالها أن تطالب بحرية النحل برقصة جديدة، فإن جمهورها قد يستمتع بالرقصة كثيرا، ولكنه لا يستطيع فهمها، لأنه جمهور محصن غريزيا ضد فكرة الحرية بالذات.

ما الفرق إذاً بين الآلة والحشرة والإنسان؟ النباتات تحرك نفسها، ولكنها لا تدري إلى أين تمضي؟ والحيوانات تدرك إلى أين تمضي، ولكنها لا تعرف السبب؟ ولإكمال مراتب الأحياء لابد من مخلوقات لا تعرف فقط إلى أين تمضي؟ ولكن لماذا تمضي أيضا؟ ونحن البشر نشكل هذه المخلوقات، والملكة التي تمكننا من فهم علل الأشياء تسمى العقل.

الآلة فيها القصور الذاتي، والحشرة محصنة بآلية الغريزة، والإنسان يملك الإرادة؛ فإذا فقدها مات فوجب إحياؤه من جديد بتوليد الإرادة عنده، وهو ما جاء به الأنبياء بعتق الإرادة من سلطان الملوك ورجال الدين وطواغيت الحزب. واعتبر القرآن أن الإيمان هو ولادة جديدة وخروج من رحم الموت، «أومن كان ميتا فأحييناه»، وعندما ذكر المسيح لنيقوديموس أنه لا بد للإنسان من الولادة مجددا، سأله متعجبا: ولكن هل يمكن أن نرجع إلى الرحم ثانية، بعد أن خرجنا منها؟ إن هذا مستحيل يا معلم. ولم يكن للمؤمن أن يقترب من الله، قبل أن يرفض الطاعة قبل السجود، كلا لا تطعه واسجد واقترب.

إن بلالا كان عبدا، ولكن الحرية هي رصيد في النفوس قبل أن تكون مرسومة على الجلد، أو مكتوبة في الهوية الشخصية. وما كان يذوقه بلال وهو يعذب، ويقول: أحد أحد، لا نعرفه نحن الذين نشأنا في بيئات نسمي أنفسنا فيها أحرارا.

اجتمعت برجلين قد أخلصا الود بأكثر من كليلة ودمنة، فقمت بتجربة عليهما، فقلت للأول: أكنت فاعلا شرا بأخيك، لو طلب منك ذلك؟ رد بانفعال: معاذ الله. قلت له: لو وضعنا في يدك مسدسا وصوبنا إلى صدغك مسدسا، ثم طلبنا منك قتل أخيك فإن لم تقتله قتلناك، أكنت قاتله؟ تردد وفكر وقدر، ثم تلعثم ثم اعترف: نعم.. ولكن؟ ثم ذرب لسانه بعشرات الحجج في قفص اتهام يبرر فعلته. كان الرجل صادقا فنحن في العالم العربي نفعل كلنا هذا يوميا…إنها الأوامر لا راد لقضائها ولا معقب لحكمها ولا مناقشة لحيثياتها.

 خالص جلبي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى