اقتصاد الحياة
أثار مستشار الرؤساء جاك أتالي نقطة مهمة وحيوية عندما أشار في معرض حديثه عن الإمكانيات المتاحة أمام المغرب بسبب الجائحة، وهي حديثه عن اقتصاد الحياة، الذي يفرضه اقتصاد الحرب ضد الفيروس.
فالحرب ضد هذا الوباء ليست محددة في الزمن، ومثلما قالت وزيرة الصحة السويدية فنحن أمام هذا الفيروس إزاء ماراتون وليس سبرينت، ومن سينجح في الوصول إلى خط النهاية هو من يمتلك نفسا طويلا وقدرة على تدبير طاقته بشكل عقلاني.
ويدفع استمرار فيروس كورونا الحكومات والمجتمعات إلى تعزيز قدراتها على التعامل مع فترات طويلة من الانطواء الاقتصادي الذاتي. الأمر الذي يعني المزيد من تدخل الدولة في القطاعات الحيوية، خاصة الاقتصادية والاجتماعية، وأيضا إعادة تحديد الأولويات في الصناعة والتجارة، بإعطاء الأولوية للصناعات الاستراتيجية التي أثبتت الجائحة أن التعويل فيها على السوق الدولية مغامرة كبرى، وأن الصناعة الوطنية لبعض المواد الضرورية للوقاية من الأوبئة وعلاجها هي مسألة حيوية في المستقبل. بل هي مسألة تتطلبها السيادة. على أساس أن البلدان التي ستصمد في وجه الوباء الحالي، هي تلك التي ستضع أسس أنظمة سياسية واقتصادية وصحية أكثر خصوصية، معتمدة على إمكاناتها الخاصة. وفي استقلالية تامة عن أية علاقات تجارية تصب ثمارها في جيوب أقليات حاكمة.
هكذا وضع فيروس كورونا الاقتصاد العالمي على حافّة الانهيار، فالأسواق أغلقت، عدا الضروري منها، وتقلص الطلب الداخلي والخارجي، وتراجعت التجارة الدولية ومثلها التجارة الداخلية، وتوقفت قطاعات اقتصادية كاملة، وأُغلقت أسواق المال على تراجعات غير مسبوقة، وتوقفت الاستثمارات، وهذا رفع معدّلات البطالة.
فأسواق البلدان النامية، هي الأكثر تضررا اقتصاديا، لأنها تعاني من ضعف على مستوى أنظمتها الصحية، أو تعتمد اعتمادا كبيرا على التجارة أو السياحة أو تحويلات المهاجرين، أو تعتمد على صادرات السلع الأولية. والنتيجة هي أنها ستكون عرضةً للضغوط المالية. وفي خضم هذا اكتشف العالم أن 80 في المائة من المواد الفعالة للأدوية والاختبارات والكواشف الطبية تأتي من الصين والهند، لذلك ظهرت ضغوط تدفع الدول للتقليل من الاعتماد على الخارج، وهذا الوضع سيدفع إلى ظهور سلاسل إنتاج وتموين محلية تكون أقل هشاشة وتواجه مخاطر متنوعة، من قبيل مواجهة الوباء الحالي، والأوبئة القادمة حتما.
أمام هذا “التسونامي”، من الطبيعي أن تطفو على السطح أسئلة عديدة. ومنها ما يدور حول أوجه اختلاف هذه الأزمة عن سابقاتها، وحول كيفية الخروج منها بأقل الأضرار في الأرواح أولا، والخسائر الاقتصادية ثانيا.
إن المؤكد هو أن كورونا ليس فقط امتحانا لمناعة الأجساد البشرية ولكنه أيضا امتحان لكفاءة الحكومات وأساسا امتحان لمستوى الانتماء الوطني لدى مواطني العالم. فإذا كانت العولمة قد انتهت في موجتها الأخيرة إلى تسليم أغلب الدول بحقيقة أنها ليست مجبرة على تصنيع أدوية لها تكلفة بيئية ما دام يمكن اقتناؤها من الصين أو الهند بأبخس الأثمان، فوجد الأوروبيون أنفسهم مثلا غير قادرين على تأمين كمامات للأطباء، لكون تصنيع المواد شبه الطبية تم التخلي عنه بالكامل لصالح الاستيراد، فإن الجائحة أثبتت خطأ هذا الاختيار، حيث تسارع الدول الآن إلى توفير المواد الحيوية.
والسؤال هو كيف سيخرج المغرب من هذا الوضع؟ وما هي الفاتورة التي سيدفعها للموازاة بين حماية الأبدان والأرواح من جهة وإنقاذ اقتصاده؟ وما هي القطاعات التي ينبغي أن تحظى بالأولوية لديه؟
في المغرب، من الصعب الإجابة بدقة عن هذه الأسئلة، لأن الإجابة تتوقف على جهود الحكومة في الحد من انتشار الفيروس، وتعاون المواطنين وامتثالهم للإجراءات الوقائية، وجاهزية المنظومة الصحية، وفعالية ما تقوم به الحكومات من إصلاح لعلاج الأزمة وتخفيف آثارها الاقتصادية.
فطيلة فترة الإغلاق الشامل لم تنضب الأسواق من المواد الغذائية الأساسية وكلها منتوجات محلية، وهذا عنصر يحسب للبلد. حيث استمرت خطوط إنتاج الأدوية، وأجهزة التنفس الاصطناعي، والكمامات الواقية. تدهور بعض المجالات التجارية كتجارة الملابس والأكسسوارات وغيرها أمر متوقع، ولا يقتصر على المغرب، فالناس أضحوا يفكرون أكثر في توفير الحاجيات الأساسية. وهذا توجه عالمي اليوم بدأت تتضح ملامحه بعد انتشار الجائحة. لذلك ينبغي استثمار هذا التوجه والتركيز على حاجيات أساسية وعلى رأسها الصحة والتعليم والغذاء والأمن. أي المجالات التي يسميها الخبراء بـ”اقتصاد الحياة”.
فإعطاء الأولوية للقطاع الصحي على مستوى الموارد، وذلك بمنطق أن الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة له مبرراته القوية، لكن الحفاظ على الأرواح يأتي في المقدمة. كما ينبغي تعويض النقص الحاصل في الطلب، عبر مساندة الشركات والأفراد الأكثر تضررا، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية، خاصة لمن يعملون في القطاع غير الرسمي، وتفعيل تعويضات للبطالة، وتأجيل دفع الضرائب أو الإعفاء منها بشكل مؤقت.
ومثلما كانت تداعيات هذا “التسونامي” قوية على المستوى الداخلي فإنه يمتد أيضا للعلاقات الاقتصادية الخارجية مع شركاء المغرب. فإلى جانب بناء اقتصاد محلي قوي يعطي الأولوية لما سماه جاك أتالي “اقتصاد الحياة”، ينبغي أيضا التركيز على علاقات دولية أكثر موثوقية، والتعاون الذي كان للمغرب مع الاتحاد الأوروبي إبان الإغلاق الكبير يمكن أن يكون نموذجا للشراكات الاستراتيجية. ففي الوقت الذي كانت كل الدول الأوروبية تتخلى عن شركائها الأوروبيين تحت ضغط الإصابات والوفيات، استطاع المغرب تصنيع مواد شبه طبية بشكل وافر وتصديرها لإيطاليا وفرنسا، وتحول الأمر إلى موضوع جدل في البرلمان والإعلام الفرنسيين.
ظهور الدور المحوري للدولة في تأمين تزويد الأسواق بالمواد التموينية الأساسية وكذا على مستوى السياسيات الاقتصادية والاجتماعية، يفرض على الحكومة إعادة النظر في سياسة الخوصصة التي شرعت فيها الحكومات السابقة ولا تزال الحكومة الحالية مستمرة فيها. فالحاجة لاستمرار امتلاك الدولة لبعض الشركات والمؤسسات الإنتاجية لا تزال قائمة، والخروج من الأزمة بأقل الأضرار رهين بتحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلالية في المجالات الحيوية التي لها علاقة مباشرة بحياة المواطن، لذلك لا ينبغي ترك هذه المجالات بين أيدي المضاربين والخواص الساعين لاستغلال الأزمة للاغتناء.
لا يتعلق الأمر هنا بتغليب لأي توجه إيديولوجي، من قبيل تبني الفكر اليساري الذي يدافع منذ قرنين تقريبا على دور الدولة، ويحذر من تحول هذه الأخيرة إلى راعية لمصالح الطبقة “البورجوازية”، ولكن بتوجه تمليه الضرورة القصوى. أو السيادة بصيغة أوضح.
فالدول الأكثر تضررا من الجائحة اليوم هي تلك التي تبنت سياسات للانخراط في العولمة، و”تريث” المغرب في تبني هذه السياسات في السنوات الماضية يصب في مصلحته في هذه المرحلة الصعبة.