شوف تشوف

ثقافة وفن

اغتيالات من أجل المال وأدباء في حضرات الأمراء 2

كان المال هو الغرض الأول في هذا العصر، فالخليفة يصفي أموال وزرائه ويقتلهم، أو يصلبهم. أما قال أحمد بن الخطيب، وزير المنتصر، لما خلع عليه الوزارة: «مثلي مثل الناقة التي تزين للنحر».
كان الخلفاء يتركون وزراءهم وعمالهم وولاتهم هملا كالغنم في المرعى، حتى إذا ما سمنوا ذبحوهم. وأخيرا جاءت نوبة الخلفاء أنفسهم فصار عمالهم يفعلون بهم كما كانوا يفعلون هم بغيرهم، كما فعل بهاء الدولة البويهي بالطائع حين أخذ ما يملك، ثم خلعه. أما وقف القاهر المسمول في جامع المنصور، وعليه مبطنة بيضاء، وقال للناس: تصدقوا علي فأنا من قد عرفتم.
أهمل الخلفاء شؤون الدولة الجلى، وصارت الكلمة في القصور للخدم والنسوان، وللجواري والغلمان. أما قال إسماعيل بن أحمد في غلام له: «يصلح للفراش وللهراش». وقصة ثمل القهرمانة جارية المقتدر، أما كانت تقعد للمظالم، فتعرض عليها شكاوى الخاصة والعامة، ويحضر مجلسها ـ محكمتها بلغة اليوم ـ الوزير والكاتب والقضاة وأهل العلم في حين يكون الخليفة غارقا في مجلس اللهو والطرب.
قال بشار:
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الرق والعود
فقتل بهذا البيت، أما في هذا القرن فصار المجون والتهتك شيئا لا يستحى به. وإذا ما قل مال الخلفاء والأمراء والولاة فتشوا عن الأغنياء من الرعية وأخذوا أموالهم لينفقوها في قصورهم.
وكثر في هذا العصر اقتناء السراري والغلمان، فقلما خلا قصر من المئات منهم ومنهن. وهذا صاحبنا المتنبي ينظم قصيدة في رثاء يماك، غلام سيف الدولة أو مملوكه، ولا يتورع أن يقول فيه:
وإن الذي أمست نزار عبيده غني عن استعباده لغريب
ولا أذكر لمن قرأت هذا القول: «رغّبني في الوزارة اقتناء الغلمان».
وملخص القول إن هذا العصر كان عصر ترف في القصور والدور، وهذا الترف جر إلى الفتن والحروب والمصادرات وكبس البيوت، حتى صارت الثروة خطرا على صاحبها. فما قولك بوزير عنده من العبيد والمماليك أربعة آلاف غلام! أيدع هذا كبيرة أو صغيرة لا يرتكبها في سبيل ابتزاز الأموال؟!
إن هذا الترف الذي رافق الخلافة العباسية منذ هارون حتى صار الخلف يسعى جهده ليفوق السلف، لهو الذي جر إلى سقوط الخلافة في هذا العصر. ثم عارض الخلفاء في ميدانهم هذا وزراؤهم وأمراؤهم وعمالهم، أما الرعية فكانت كبش التضحية.
فالوزير ابن الفرات كان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار وينفقها. قيل: إنه كان لا يأكل إلا بملاعق من البلور ولا يأكل بالملعة إلا لقمة واحدة. فكان يوضع له على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة…
وهاك هذه الحكاية الطريفة عن الوزير المهلبي: «كان له ندماء يجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على أطراح الحشمة أو التبسط في القصف والخلاعة وهم: ابن قريعة، وابن معروف، والقاضي التنوخي وغيرهم. وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان الوزير المهلبي. فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس، ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش، بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم كأس ذهب من ألف مثقال إلى ما دونها، مملوءًا شرابًا قطربليٍّا أو عكبريٍّا، فيغمس لحيته فيها، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم على بعض، ويرقصون أجمعهم، وعليهم المصبغات ومخانق البرم والمنثور».
إن الثروة التي كانت في بيوت هؤلاء تكاد أخبارها لا تصدق. أما الشعب المسكين فكان في كل قطر طريد الفقر والبؤس، تأكل رغيفه الجباة المتكلفون بجمع المكوس والضرائب وليس من يسألهم عما يفعلون. لا يهمهم إلا جمع المال ليدفعوا ما تكفلوا به للولاة، ويصبحوا هم أغنياء يعيشون كالطبقة العليا. اقرأ رسالة بديع الزمان التي يشكو فيها البختري.
فالخليفة، أو الإقطاعي الذي استبد بقطرٍ من الأقطار، ورجال هؤلاء وأهلوهم، وأتباعهم، وأتباع أتباعهم، أولئك كلهم الغارقون في النعيم، أما الشعب المسكين فكله في جحيم. وتجبى منه الضرائب مثنى وثلاث ورباع، وتنتابه المجاعات من حين إلى آخر، فيلجأ إلى سلطان ربما سمع صوت الرعية ورثى لها، وربما لا. كل هذا توضحه لنا رسائل بديع الزمان.
هذا العصر الذي سميناه عصر «الحضرات» تستطيع أن تسميه بحق زبدة الحقب. لقد نكبت فيه الخلافة بمجدها وعزها وأبهتها، ولكن الأدب كان له في كل مصر مرتع، فلا تكاد تضيق مدينة بشاعر أو كاتب أو عالم حتى ينتقل إلى غيرها ليحل فيها على الرحب والسعة. لا بل كان هؤلاء الملوك الصغار يستقدمون إلى «حضراتهم» كبار الشعراء والكتاب ويستزوزرونهم. وحادث الصاحب بن عباد مع المتنبي مشهور. ثم ألم يستقدمه كافور وابن العميد وعضد الدولة… أجل كثر في هذا العصر الملوك والوزراء المتشبهون بالملوك، فكثر الرواد من أهل الأدب ورجال العلم، فنفقت المنتوجات القلمية في أسواق العواصم… واشتد التنافس بينهم فأدى ذلك إلى تنافس الشعراء وكد أفكارها ليأتوا بالبدع. فهذه حضرة سيف الدولة في حلب تتسع لأعظم شعراء العصر وكتابه وعلمائه، وعلى حضرته هذه قس الحضرات الأخر، وإن كانت دونها، كالحضرات السامانية والبويهية، والزيارية، والغزنوية والسبكتكينية حتى الخلفية. فهذا أحمد بن خلف، على ضيق رقعة ملكه في سجستان كان معطاءً يحب العلم والعلماء حتى قال فيه ابن الأثير المؤرخ: «وكان خلف مشهورًا بطلب العلم وجمع العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب».
خص «بديعنا» خلفًا هذا بمقامات ورسائل، وقد يكون هو أول من فتح أبواب الرزق في وجه «الهمذاني» حتى صار ملاكًا كبيرًا في هراة، كما يتضح من رسالة كتبها إلى أبيه يدعوه إلى الإقامة عنده في هراة قال:
فلم لا ينشط؟! ولله لا يضيع بذلك المكان درهمًا إلا عوضته دينارًا، ولا يعدم هناك دارًا إلا أفدته ديارًا، أخاف ولله أن أموت وفي النفس حاجة لم أقضها، ومنية لم أحظ ببعضها. لا يفعل سيدنا الشيخ والظن بالولد أولى من الظن بالبلد. وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج، وأن يرتب له عمارة شتوية تسعه والشيخ الفاضل العم، فليتفضلا، وليقوما ويرحلا. ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين، فما يعجبني لقاء ليس له بقاء، فإن لم يمكن استصحاب القوم فلا يتأخر بنفسه. فسيرد على خمسمائة نيران وألف أكَّار، وأحوال منتظمة وأسباب مستقيمة.
أرأيت ما أحرز هذا الأديب من ثروة؛ خمسمائة نيران، أي خمسمائة زوج بقر، وألف عامل تعمل في أرض «سيدنا» الذي كتب في أول أمره إلى الخوارزمي يعاتبه بما يلي: «الأستاذ أبو بكر، ولله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إذ وجده يضرب إليه آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في رتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أنواع المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام… ولست مع هذه الحال وفي هذه الأسمال أتقزَّز صف النعال».
تلك كانت حال الأدباء الموهوبين، يخرج أحدهم من بلده طريدًا شريدًا فيرد الحضرات فإذا لم ينفق في بلد يمم بلدًا آخر. ويظل على ذلك حتى يجد لبضاعته سوقًا، فيلبس إذ ذاك الديباج، ويركب البغلة، ويقتني العبيد، ويبتاع الجواري والغلمان… هذا إن لم يصبح وزيرًا خطيرًا له «حضرة» ينتجعها الأدباء والشعراء، كما فعل ابن العميد والصاحب ففتحا للأدب سوقًا كالتي في حلب ومصر، وكل بلد فيه ملك من هؤلاء الملوك الذين ينافس بعضهم بعضًا في تزيين حضراتهم بالأدمغة الكبيرة والعقول الراجحة والعبقريات النادرة. لقد كان هبوط الخلافة في القرن الرابع ارتفاعًا للأدب، فلولا هذه
الحضرات التي تدفقت منها الأموال كالأنهار لم يبدع الهمذاني مقاماته التي كان لها أبعد الأثر في الأدب العربي.
إن عصرًا عملت فيه ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة، لهو عصر يستحق أن يسمى زبدة الحقب، كما قال أبو تمام في وقعة عمورية… ما رأيت عصرًا حفل بالأدباء والعلماء والشعراء كهذا العصر. أليس هو عصر المتنبي، وابن العميد، وابن عباد، والخوارزمي، وبديع الزمان، والتوحيدي، والصابي، وابن فارس، وابن دريد، والشريف الرضي، وابن حجاج، والثعالبي، وأبي فراس، وكشاجم، والفارابي، والأصفهاني، والجوهري، والزوزني، والأشعري، والعكبري، والتهامي، وابن يوسف، وابن سينا، والمعري، والقالي، والجرجاني، والطبري، والمسعودي، والرازي، وابن النديم، وابن عبد ربه، وابن هاني، والنامي، والببغاء، والوأواء، وابن خالويه، وابن جني، وأبي علي الفارسي؟!
كان في كل قطر ملوك، وكان في كل قطر رجال فأدى هذا إلى إنتاج أدبي عظيم لم يُر مثله في العصور السابقة. إذا كان في العصور الأولى بضعة عشر عظيمًا، ففي هذا العصر من عظماء المملكة الأدبية عشرات ما ذكرت منهم إلا الرؤوس.
فابن لنكك المحروم قال الهجاء المر كابن الرومي، وابن حجاج وابن سكرة وغيرهم أعادوا عهد أبي نواس في المجون، ولولا أننا ننظر إلى آدابنا نظرة الأثري إلى «الأنتيكا» لقلت: إن هذا العصر خير عصورنا الأدبية في الكمية والكيفية، ولا أستثني من القدماء إلا الجاحظ الذي لا يُجارى، وكلهم عيال عليه كما قال فيه ابن العميد.
كان الأدب في هذا العصر صورة صادقة للحياة، وما المقامات إلا وليدة مظاهر اجتماعية أشار إليها الجاحظ من قبل. إنه البؤس الذي فتق الحيل لابتزاز الأموال، وإنه فساد الأخلاق الذي دعا البديع إلى تصوير الشذاذ والمتشردين، كما صور حالة العلماء ومجالسهم، والأغنياء الحديثي النعمة الذين يريدون مجاراة كبار رجال الدولة في قصورهم.
أما الترف والنعيم فيصفه هو وغيره، ولعل هذا التأنق في الإنشاء هو من وحي صور الحياة الاجتماعية. فهذه الزركشة فيه تومئ إلى الحياة الاصطناعية التي كان يحياها المترفون. وبالاختصار كان هذا العصر عصر علم وأدب وشعر وتأليف وفلسفة، ولا تنسى أيضًا أنه عصر الفاطميين، الذين عمروا العقول بفلسفتهم ونظرياتهم، والأرض بقصورهم ومبانيهم للحكمة والعلم والتعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى