شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

«اعمر رامي» يكشف مآسي التعذيب والاختطافات بالجزائر

مذكرات مثيرة عن ممارسات قوات مكافحة الإرهاب سنة 1992

«بعد مرور ثلاثين سنة على الجرائم المرتكبة في مراكز التعذيب المخصصة لمحو أي معارضة للنظام العسكري، حان وقت سرد الأحداث والحقائق بكل تفاصيلها، لترسم صورتها في الأذهان وتحفر في الذاكرة. لذلك يتوجب ذكر اسم الجلاد ومركز التعذيب والسجن، حيث ذاق الكثيرون ألوانا عديدة من الآلام والمعاناة. للتذكير مرة أخرى بأنني أحد الناجين، الذين لا يزالون على قيد الحياة من بين الذين استطاعوا الصمود تلك السنوات المرعبة، وأستسمح نفسي في أن أكون أول من يخط ويروي الحقائق، التي أتمنى أن تشجع وتدفع باقي ضحايا العُشرية السوداء إلى القيام بالمثل».

المتحدث هو «اعمر رامي»، كما عرف نفسه، فهو أحد الذين نجوا من الاختطاف والتعذيب المفضي إلى الموت. رأى الموت عن قرب وعاش تجربة مأساوية جدا، خلال اختطافه على يد قوات «DRS» التي قدمها النظام الجزائري سنة 1992، على أنها الحامي الأول للجزائريين من الإرهاب. بينما كانت في الحقيقة، العصا الغليظة التي ضرب بها حكام الجزائر على يد ورأس معارضي هيمنتهم على السلطة.

في هذه الترجمة التي صدرت أخيرا لمذكراته إلى اللغة العربية، بسبب الإقبال الكبير هذا العام على النسخة الفرنسية، التي ألفها بنفسه وحكى فيها عن الاعتقال وأجواء جزائر 1992، ينقلنا «اعمر رامي» إلى فترة العشرية السوداء، لكي نرافقه في رحلة تحبس الأنفاس وتضع قارئ تفاصيلها في حالة من الدهشة، لهول الفظاعات التي يقدمها بين دفتي هذه المذكرات.

صفحات سوداء من سنة 1992

«حوالي الساعة الثامنة مساء، فتح مدني ملثم البوابة بلطف دون إحداث ضوضاء كبيرة، توجه نحو ذلك التاجر الشاب من بوفاريك، وهمس له ببضع كلمات، ثم غادر على رؤوس أصابع. بعد وقت قصير ودون تأخير كبير، عاد محملا بعلب البسكويت «بيمو»، ولوحات الشوكولاتة «أومباسادور». أؤكد هنا أن هؤلاء المجرمين في مركز عبلة (عنتر سابقا)، لا يهتمون كثيرا بمشاكل سوء التغذية لدى المعتقلين. ففي كل يوم وقت الغداء، يتم خلط فتات الخبز المتبقية مع بقايا طعامهم، والتي عادة ما يتم وضعها في سلة المهملات، ليقوموا بتوزيعها على محتجزي الطوابق السفلية والزنازين المختلفة».

الكلام هنا لـ«اعمر رامي»، أحد الناجين من مرحلة هيمنة قوات مكافحة الإرهاب في الجزائر، والتي جرت آلاف المواطنين الجزائريين الأبرياء، سياسيين ونقابيين ومثقفين، إلى الأقبية لتعذيبهم وإلصاق بهم تهمة الانضمام إلى الجماعات الإسلامية المسلحة، والولاء للجبهة الإسلامية للإنقاذ الممنوعة. في هذه الترجمة العربية لمذكراته من توقيع «ن. ب»، والتي صدرت سابقا بالفرنسية، سلط المزيد من الضوء على تجربة الاختطافات والتعذيب والتصفيات الجسدية، التي راح ضحيتها أكثر من نصف مليون جزائري. كانت سنة 1992 فارقة جدا في حياة «اعمر رامي»، حيث عاش تفاصيل مرعبة من قلب الزنازين المخصصة لتعذيب، الذين جرى اختطافهم على طريقة أفلام «الأكشن» من منازلهم، ولم تكن التهم التي وُجهت إليهم مقنعة، حتى في نظر الجلادين الذين أشرفوا على تعليقهم. شهادات صادمة ينقلها كتاب «ربيع الإرهاب في الجزائر… شهادات وحقائق صادمة عن جرائم DRS».

هذا الاسم، لم يكن معروفا أبدا بالنسبة إلى عدد كبير من الجزائريين، لكن بمجرد صدور مذكراته أخيرا، أصبح رجل سنة 2022 بامتياز، وتهافت القراء في الجزائر وخارجها على مذكراته، التي بسط فيها شهادته على ما عاشه من فظاعات خلال ما عرف في الجزائر بـ«الحرب على الإرهاب». ينتقل «اعمر رامي» إلى وصف واحدة من أصعب اللحظات التي مر بها، في أثناء احتجازه، والتي سوف نتطرق إليها لاحقا بالتفصيل. يقول: «حين استيقظت على الساعة الثانية ظهرا كان رأسي مضمدا بكم قميصي، لأن العم سعيد اهتم بي. كان صوت في خاطري يقول: «تشجع فلقد اجتزت محنتك الثانية». استعدت وعيي ورشدي، وشحت بناظري على هؤلاء الشباب المتكئين على الجدار المتجمد، كل واحد يحاول لف نفسه في ثلث بطانية سميكة مثل ورق التبغ، ملامحهم متجعدة وعيونهم غائرة، وفوق كل هذا النفسية المتدهورة، بسبب التهديد الدائم القائم فوق رؤوسنا، وهو الخروج من إحدى غرف التعذيب جثة هامدة.

بين الرابعة والخامسة عشية، بدأت الحركة في الطوابق العلوية تنقص شيئا فشيئا، لأن تحضيرات ليلة ميلاد المسيح تجاوزت أهمية خلاص الجمهورية، قامت شاحنات خاصة بإفراغ كميات هائلة من الطعام والشراب على طاولات قاعة الطعام، أخبرنا بذلك جمال ت. س. الذي تم استدعاؤه للمرة الثانية للاستجواب على مائدة عشاء عسكرية باريسية، وكذا من أفراد الجماعة الجهادية الذين اعترضوا اتصالات بين الأجهزة الأمنية».

تفاصيل جلسات التحقيق وتهمة «الجماعة الإسلامية المسلحة الجديدة»

الفقرة هنا تتحدث عن نفسها، وجل ما نقله «اعمر رامي» في هذه المذكرات يتحدث عن نفسه، بل ولا يحتمل أن يتم التعليق عليه، لأنه يقول كل شيء.

ننقل في هذا الملف بعض ما عاشه داخل المعتقل، حيث سوف نتطرق لاحقا إلى الطريقة التي وصل بها إلى هناك، وذكرياته في أثناء مراهقته مع المراكز السرية، التي انتشرت في الجزائر، خصوصا للقضاء على المعارضين والنقابيين، وكل من كانوا لا يتفقون مع هيمنة الجيش على السلطة، خلال الثمانينيات والتسعينيات.

وبعد التعذيب بكل ألوانه، انتقل إلى الحديث عن جلسات الاستنطاق الشبيهة بالمحاكمة، والتي نظمت للمختطفين، في مراوغة من النظام لكي يطوى ملف من بقوا على قيد الحياة. يحكي «اعمر رامي» عن المحاكمة: «كان عدد المعتقلين يزداد بمقدار عشرة أفراد كل يوم، تسارعت وتيرة جلسات التعذيب، لدرجة أننا لم نعد نهتم لا بالوقت ولا بمن لم يعد، أولئك الذين أصبحوا في ما بعد في عداد «المفقودين»، أو «أفراد الجماعة الإسلامية المسلحة الزائفة الجديدة»، لا أحد يمكنه التكهن؟
سوف يتساءل القارئ لماذا ذكرت «أفراد الجماعة الإسلامية المسلحة الزائفة الجديدة»، سأورد الإجابة لاحقا بالتحدث عن تلك التشكيلات العسكرية التابعة للدولة التي استبدلت البذلات الخضراء وحلق الذقن، بارتداء «القشابية» وتطويل اللحية.

صباح جميل لأحد الأيام سيبقى محفورا في ذاكرتي إلى الأبد، تقدم شاب بزي مدني يرتدي ربطة عنق وقميصا أبيض، ليفتح بكل هدوء بوابة الطابق السفلي، يحمل بين يديه وثائق وأوراق .
بما أنني الأول في قائمته قام باستدعائي لأَمْثُلَ أمامه، فطلب مني رفع الوشاح عن عيني والنظر إليه، كان شابا بملامح طالب خجول، بلهجة محسوبة نصفها كلمات ونصفها إشارات، سلمني محضر الإفادة. – اقرأ ووقع المحضر.

– لا أستطيع القراءة، الجو مظلم هنا».

لقد كان الجو مظلما بالفعل، حتى أن المحقق أخبره أنه بإمكانه مغادرة المكان المظلم بسهولة، شريطة أن يوقع فقط على المحضر. لكن المشكل أن التهم التي صُنعت للمعتقلين، كانت تكفي لإرسالهم إلى ما وراء القمر، وليس إطلاق سراحهم من الاعتقال الذي لم يكن قانونيا من أساسه، لذلك كان المعارضون الجزائريون يسمونه «الاختطاف».

++++++++++

الأمن العسكري الجزائري من الداخل.. كذبة حُماة الجمهورية

أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ كانوا أكثر الجزائريين معرفة بدهاليز أقبية التعذيب الذي مورس عليهم في فترة التسعينيات.

يشرح لنا اعمر رامي، الطريقة التي وُلد بها هذا الأمن العسكري انطلاقا مما كان يُسمى «وزارة التسليح» خلال الثورة الجزائرية على الاستعمار الفرنسي. يقول: «لطالما كنا مفتونين بما يسمى الأمن العسكري أو المخابرات باعتبارنا أمة سيادية، فقد كان هذا الموضوع مذهلا للجميع مما سمح بنسج العديد من الأساطير حوله، غير أنها أساطير تخفي حقائق مرعبة تفوق استيعابنا فكرست نفسي دون تردد خلال شهر رمضان الكريم لأوثق وأدون في كتاب أمثلة عن جرائم تم ارتكابها سنة 1992 على يد رجال الأمن العسكري التي كانت مهمتهم الأساسية هي جعل الجزائر جحيما للجزائريين.

أنا أشعر بارتياح كبير وأنا آخذ هذا القرار لكتابة بضع صفحات أتمنى أن تساهم في إماطة جزء من اللثام عن أسطورة تمت حياكتها حول القدرات الخارقة لمصالح الأمن الجزائري بما في ذلك الاستعلامات المعروفة لدينا باسم المخابرات .

تم إنشاء وزارة التسليح والعلاقات العامة خلال ثورة التحرير وجندت قتلة كان دورهم آنذاك التصفية الجسدية لشخصيات قيادية مستهدفة، أما خلفاءهم في ابن عكنون ومصالحها التابعة والتي تتمتع بالحصانة المطلقة فيقومون بعمليات تصفية أفراد وجماعات وإبادة قرى بأكملها دون التفريق بين رجل وامرأة أو طفل.

وبما أننا نعرف إلى ما تعود أصول أغلب مجندي عرين المخابرات، كما سنراه لاحقا، فإن ذلك لا يستثني وجود عوامل وراثية وتأثيرات المحيط التي تدفع إلى استبدال استخدام الذكاء، مثلما يفعل نظراؤهم الغربيين، باستخدام مبدأ الترهيب والترغيب (سياسة العصا والجزرة) ضد شعوبهم وبالتالي يكرسون تكوينهم الحقيقي كعملاء مدربين ويسجلونه بدماء ضحاياهم بممارسة الرقابة والقمع بأقصى وأبشع الأشكال.
تقع بلدة مسقط رأسي على أطراف منطقة القبائل البحرية، وأراد خالق الكون أن تتربع قريتنا قمة الجبل لتطل بكل شموخ على البحر وعلى المنحدرات الوعرة والطرق الملتوية التي تمتد على سفوح الجبال مما سمح للقرية بأكملها برجالها ونسائها أن تساهم في الحرب التحريرية الوطنية في الأول من تشرين الثاني من نفس السنة.

لقد عشت سنوات طويلة وأنا أواجه معضلة عويصة وهي كتابه هذه المذكرات حول الأحداث التي تلت كذبة القرن التي حاكها من يصفون أنفسهم بحماة الجمهورية في 11 يناير 1992. في ذلك اليوم الذي تم فيه الإلغاء التعسفي لأول انتخابات حرة في الجزائر المستقلة حيث ارتدى عسكر الجزائر بدلة الذل التي وصمتهم بالعار إلى الأبد».

هنا، يُسلط الضوء لأول مرة في الجزائر، من خلال الكتابة الجريئة، على هذه الجزئيات المرتبطة بأحداث التسعينيات وعلاقتها بماضي الأمن الجزائري وكيف تشكل لكي يكون عصا في يد المخابرات الجزائرية.

ولكي نفهم بنية وزارة التسليح الجزائرية التي تفرعت منها كل الأجهزة الدموية في الجزائر. يشرح لنا اعمر رامي الأمر كالآتي. كانت هناك ثلاثة فروع لوزارة التسليح والعلاقات العامة: المديرية المركزية للأمن الداخلي، والمديرية المركزية للأمن الخارجي، والمديرية المركزية للأمن العسكري. وهي المسؤول المباشر، حسب رامي دائما، عن مقتل ربع مليون جزائري.

من أين جاء المعارضون الجزائريون بهذا الرقم الذي شكك فيه النظام الجزائري في أكثر من مناسبة ووصفه بأنه مُبالغ فيه؟ لقد نسوا أن الرقم نفسه أعلنه سابقا رئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى مستندا على المحاضر وتقارير المخابرات والتقارير الإدارية الرسمية. المفاجأة أن الرقم الذي طعن فيه النظام وعلق عليه بأنه مبالغ فيه، ليس إلا جزءا من الحقيقة. إذ أن الذين عاشوا الأحداث عن قرب متأكدون اليوم في الجزائر أن الرقم الحقيقي يتجاوز ما أعلن عنه بكثير. وأن التشكيك خطة من الممسكين بزمام المخابرات الجزائرية للهروب إلى الأمام وتقزيم ما وقع من جرائم في حق الجزائريين خلال التسعينيات، باسم مكافحة الإرهاب.

 

قصة «فيلا» المخابرات العسكرية التي كانت مركزا للتعذيب

يعود بنا اعمر رامي، إلى سنة 1957 لكي يحكي عن بداية مأساة أسرته مع التعذيب والاعتقال، وكيف كانت التجربة الأولى لأسرته مع الاختطافات، حيث كان والده قد تعرض للاعتقال أيام الاستعمار الفرنسي ونال نصيبه من المعاناة. يقول: «بعد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية -آه كم أحب هذه الجملة- عاد أبي من فرنسا ليستقر عند أقاربه بالعاصمة، حيث كان أخوه الأصغر وأعمامه الثلاثة وثلاثة من أبناء عمومته قد التحقوا بجبهات القتال فتم تكليف والدي مع جدتي للقيام بمهمات متنوعة لوجيستيكية ومالية مع الاهتمام بالمراسلات التي يذكرني نظامها بذلك الذي وضعته الجماعة الإسلامية المسلحة قبل توقيف قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بفترة طويلة.

في نونبر من سنة 1957 كنا نسكن بالقرب من الفصيلة الإدارية المتخصصة الفرنسية في حي لابروفال بالقبة، وفي إحدى الأمسيات في حدود التاسعة ليلا قام أحد الجزائريين الملثمين بجلب كتيبة من الجنود الفرنسيين إلى منزلنا مباشرة.

تم توقيف والدي الذي كان في المنزل في حينها بشكل تعسفي وتم تجريده من الملابس ورميه على الأرض تحت المطر في الوقت الذي كان فيه جنود آخرون يحفرون أرض المنزل بالمعول والمجرف بحثا عن أسلحة يفترض أنها مدفونة هناك».

هذا التمهيد الذي سرده اعمر رامي عن تجربة والده الذي تم توقيفه واعتقاله ولم يُسمح للأسرة برؤيته في مركز الاعتقال إلا بعد أسبوع، كان مجرد تمهيد لكي يحكي هو شخصيا عن ذكرياته أيام شبابه، بعد استقلال الجزائر، وهو يرى كيف أن «الدولة السرية» كانت تتكون، وتمارس نفس أساليب الاستعمار في حق الجزائريين. ما يحاول هنا اعمر رامي ترسيخه، أن المسؤولين العسكريين في الجزائر، والذين كونوا نواة المخابرات ونقلوا تجربة جيش التحرير الجزائري لكي يؤسسوا بها صفوف فرق الأمن، أعادوا تطبيق هذه التجارب «الاستعمارية» على الجزائريين، بل وأبدعوا فيها لتصبح أفظع. ما عاشه الجزائريون من فظاعات في ظل الأجهزة الأمنية الجزائرية، يفوق بكثير ما عاشوه من مآسي أيام الاستعمار. يواصل اعمر رامي استحضار ذكرياته: «بعد الاستقلال، ترعرعت في الكثير من الأحياء ببلدية القبة لكن المكان الوحيد الذي كان يلفت فضولي على وجه الخصوص كان منزلا كبيرا تابعا للدولة وبالتحديد لوزارة الدفاع الوطني، حيث إن عائلة مكونة من زوجين كبيرين في السن مع ابن في السابعة عشرة من عمره كانت تسكن أحد أجنحته. كان الولد المدعو عبد الرزاق في نفس عمري يقدم أباه على أنه ضابط في الأمن العسكري. ذلك المنزل هو ما أسميه عرين المخابرات، حين يقع نظرك عليها تحسبها أحد ديكورات رواية فرانكشتاين بجدرانها المهترئة وواجهتها المغطاة المكسوة بنباتات متسلقة من جميع الأصناف تصل إلى نوافذ الطابق الأول مما يؤكد عدم حصولها على أي ترميم أو صيانة منذ مغادرة الجنود الفرنسيين لها. بين سنتي 1970 و1971، كنت أقف أمام الفيلا الغامضة لأتتبع تلك الحركة الكثيفة ليلا ونهارا: سيارات تذهب وأخرى تأتي لأن روادها كانوا دائما يأتون على متن واحدة، لأشاهد شبابا عُزب دون الخامسة والعشرين يلجونها طوال اليوم، وجوههم حزينة عابسة تعلوها تكشيرة بدل الابتسامة، لكنني لم أتخيل يوما أن هؤلاء هم من سيصبحون في المستقبل منتشرين على كامل التراب الوطني كجلادين ومرتكبي جرائم تعذيب واضطهاد، بل كنت أتساءل لسنوات عدة عما يدور داخل تلك الفيلا؟

اعترف لي عبد الرزاق.د الذي أصبح صديقا لي بعد حصوله على البكالوريا أن والده يضغط عليه حتى يلتحق بالطيران العسكري ويبعده عن اختياره للأمن العسكري بعد حصوله على التقاعد، كما أسر لي أن والده كان يبغض أعمالهم القذرة وأنه لا يتمنى أن يرى ابنه يختار تلك الحياة ويتشرب من الجبن والبغض الذي يتميز به المجندون تحت مسؤوليته من مجهولي النسب.

في تلك الفترة لم تكن التجاوزات تمس الناس البسطاء بل كانت تلمس حياة الطبقة السياسية والأئمة والمعارضين بما في ذلك أقرباؤهم وأفراد عائلاتهم. فقد مرت بمحاذاتي العديد من الشخصيات المعروفة مثل فرحات عباس، محمد السعيد، الإخوة علي وسعيد رحال حيث شهدت تلك الفيلا الكئيبة على سوء المعاملة والإهانة التي تعرضوا لها.

في نهاية الأمر يتضح أن هؤلاء هم الرجال الذين شكلوا الشرطة السياسية لمصالح المخابرات الجزائرية أي أنهم اللبنة الأساسية لمديرية الاستعلامات والأمن في سنة 1992.

في مركز عبلة (عنتر سابقا) وفي جميع المراكز الوطنية الأخرى التابعة له قام رجال خريجون من مخافر عرين الشياطين بالتعاهد على إبادة الإسلاميين بعد انقلاب 1992، فهؤلاء هم بالتحديد ما يمكننا تسميته بمنظمة إرهابية والتي خرج غالبية الشعب اليوم للتنديد بها بطريقة شرعية وهم من كانوا وراء الاغتيالات واختفاء أبناء الشعب في فترة العشرية السوداء».

 

تفاصيل مرعبة لاعتقال «اعمر رامي» على يد القوات الخاصة سنة 1992

انتقل اعمر رامي، وهذه واحدة من أهم صفحات هذه المذكرات، وسبب اهتمام الجزائريين بها لمعرفة المعاناة الشخصية للكاتب. يقول: «في يوم الجمعة الثامن عشر من دجنبر سنة 1992 كنت في سريري على الحادية عشرة ليلا غير مُبال تماما كما كان والدي. فجأة سمعت والدتي أصواتا غريبة عند عتبة الباب كأنها صوت تحريك لأسلحة نارية فجاءت لتحذيري بأن أفرادا من العسكر على وشك طرق الباب. بعد بضع ثوان، كنت متأهبا وبعد الطرقة الأولى فتحت الباب على مصراعيه ليقابلني رجل ضخم ملثم مشيرا علي بإصبعه: نعم إنه هو. وإذا بضربة رشاش تنهال على جبهتي بقوة وضربة أخرى على رأس ابني البالغ من العمر آنذاك سبع سنوات. والذي انزلق بين قدمي ليفر هاربا. ثم قاموا بجري من ياقة قميصي إلى سيارة «النينجا» ثم انهالوا علي بضربات السلاح والركلات ليرموني بعدها ووجهي مخضب بالدماء ويداي مكبلتان وراء الظهر في مؤخرة سيارة رباعية الدفع انطلقت في اتجاه روسيو – منطقة العناصر الآن- حينها استرجعت ذكرياتي ولاحظت وجه الشبه مع طريقة اعتقال والدي سنة 1957 على يد عساكر فرنسا». يقول اعمر رامي إنه علم لاحقا أن أزيد من خمسين سيارة من مختلف مصالح مكافحة الإرهاب قد كانت حاضرة خلال عملية اعتقاله. وقال أيضا إن القوات التي اعتقلته بتلك الطريقة العنيفة التي تعود إلى أيام الاستعمار الفرنسي، قاموا بسرقة مبلغ 8000 دينار جزائري ووثائق ملكية الشقة التي تقطنها أسرته.

كان اعمر رامي يتأمل البذل العسكرية التي كان يرتديها أولئك الجنود التابعون لقوات محاربة الإرهاب، ويتحسر على الأيام التي ارتدى فيها بدوره بذلة الجيش وحمل «الكلاشينكوف». في اعتقاده، كانت البذلة قد فقدت هيبتها، ما دام الذين يرتدونها أمامه يسرقون ممتلكات المواطنين ويرهبونهم باسم محاربة الإرهاب.

يضيف قائلا: «حوالي الساعة الثالثة صباحا انتهت عملية الاختطاف عند منزل بأعالي تيليملي فاتجه الحشد إلى عرين الضباع بمركز عبلة (عنتر سابقا) وخلال الطريق انفصلت العديد من السيارات المدججة بالرجال المسلحين لتعود كل واحدة لثكنتها.

السيارات التي دخلت لثكنة ابن عكنون أين كانت توجد وحوش بشرية في انتظار وصول اللحم النيئ والدم الطازج، لم تكن سوى سيارات توصيل قامت بمهمة تسليم للسلع فقط.

كانت الأصفاد حول معصمي ووشاح أسود يلف عيني ومسدس كبير وجه إلى رأسي حين تم اقتيادي بقوة وإرغامي على صعود الأدراج المؤدية لمكتب الاستجواب.

تم دفعي بعنف داخل غرفة كبيرة فتناهى لمسامعي صوت بشري لأحد الضباط الذي كان يوجهني نحو مكتبه بوابل من الشتائم لاستكمال ورقة المعلومات وملء معطيات المطابقة وإقرار باستلام المنتج. يتم الأمر بسرعة فائقة فورتفوهك بالأجوبة!

لقد تلقيت تعليمات صارمة بعدم رفع الوشاح عن عيني تحت أي ظرف من الظروف، وإلا سأخاطر بفقدان حياتي في وقت أقرب مما كنت أتمناه فانصعت طواعية، ولم يستغرق الأمر إلا بضع ثوان لأجد نفسي في الطوابق الأرضية التي سبقتها شهرتها السيئة».

جلسات التعذيب وهذه أسوأ لحظات «العُشرية السوداء»

سرد اعمر رامي لحظات مؤلمة من جلسات التعذيب التي تعرض لها في أقبية المخابرات العسكرية حيث وجهت له تهمة الإرهاب، وهي التهمة الفضفاضة التي كان الجيش يُلبسها معارضيه أو الذين لم يكونوا راضين عما كان يقع في الجزائر خلال تلك الفترة.

سرد لنا اعمر رامي ذكرياته عن الاعتقال والتعذيب حيث قسمها حسب الجلسات التي مر بها منذ أن وضع قدميه في «عالم الأقبية السرية».

يقول متحدثا عن الطريقة التي عُذب بها فور وصوله إلى مركز الاعتقال إنها كانت عنيفة جدا، ولم يكن القائمون على التعذيب يفرقون بين المسنين والشباب، حتى أنهم قذفوا رجلا كبيرا في السن، كان بين المعتقلين، ورموه أرضا كما لو أنه شاب في العشرين ولم يبالوا نهائيا بما قد يصيبه بسبب الارتطام بقوة مع الأرض. يصف اعمر جلسات التعذيب كالتالي: «استسلمت لضعفي الطبيعي ولم أستطع أن أبقى مكتوف اليدين أمام ظلم الهمجيين، طرحت عليه سؤالين أو ثلاثة فرفض الإجابة فبكيت عليه وما زلت أبكي بدموع مريرة إلى يومنا هذا.

كانت شعلة الانتقام التي تغذي قلبي كل يوم هي التي ساعدتني على البقاء في ساحة القتال، إنه الواجب والدين الذي أدين به لهؤلاء الضعفاء تعيسي الحظ، لكنهم معززون بالتضحية في سبيل الله الواحد الأحد.

بعد وقت قصير تم نقلي لغرفة تعذيب أخرى لأواجه الشخص الذي اتهمني بحيازة بندقية ذات منظار، بالكاد انتهيت من إنكار التهم حتى أمر كبير الجلادين بإيماءة من رأسه بإعادتي إلى الطابق السفلي.

أمسكني الجلادون الواقفون خلفي من كتفي ورجلي ودفعوني بعيدا باتجاه السلالم المؤدية إلى قاعة الاعتقال، اصطدمت بالدرجات الأولى بقوة كبيرة مما كلفني فقدان اثنتين من أسناني. رفعني الزبانية مرة ثانية وفجأة أرسلاني لأطير في الهواء متوعدين برؤيتي مجددا في اليوم التالي في اختبار حاسم وحاد، لأنه قبل أن يستدير ذاهبا قال لي أحدهم: «إنه دورك غدا».

في حين أن القلق كان يدمرني من الداخل حول تهمة حيازة سلاح فائق الدقة، كان صاحب التهمة أحمد.د من حسين داي في طريقه للتعرف على رفيق آخر واختطافه في وضح النهار حوالي الساعة الرابعة مساء في طريق عودته من العمل».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى