اعترافات جثة
د. جهاد بريكي
جثة تموء كقطة تحتضر من فرط العطش، جثة هامدة تحت ركبتك العريضة دون حراك. يومها ظننت أن ستار حياتي سينسدل على هذا المشهد السخيف المتهالك، وجهك المتصبب عرقا والمتقاطر فوق جبهتي المنكمشة، وعيناك المنتفختان كعيني بومة مصابة بالأرق، ويدك المرتجفة المنهالة بلكماتها المتتالية على وجهي. وجهي الذي أخبرتني يوما أنه شمس مساء ذهبية، ونجمة حولت قدرك إلى خليج هادئ تزحف نحوه كل الكائنات بحثا عن الحياة. هو الآن يحاول فاشلا تجنب اللكمات المنقضة عليه. انتظرت انطفاء الضوء، أغمضت عيني وتركتك تستمتع بهيجان الثور المنفلت بداخلك، وتوسلت لملك الموت بالإسراع، كان ألم اللكمات على وجهي مبرحا وألم العجز على روحي قاتلا. لقد توسلت إليك لثوان قليلة ثم أحجمت، توسلي كان يزيد بريق الغضب المتفجر داخل أوداجك، يغريك بمزيد من الدهس والرفس. لم أفهم كيف تحولت من زوج أهرب من العالم إليه، إلى وحش تنغرس ركبته في رقبتي، رقبتي التي علقت عليها يوما قلادة الحب الأزلي الذي لا يحده الزمان ولا المكان، وقلدتني معها عهد الوفاء والبقاء، فأوفيتُ ووفيتْ. ثم ها نحن، الآن، جثتان واحدة فوق الأخرى، تمارسان طقوس العنف الزوجي اليومي. هل كان يجب أن أثور ضدك منذ اللطمة الأولى وأهجرك منذ اللكمة الأولى التي جئت بعدها باكيا جاثيا نادما كطفل كسر مزهرية. رأيتك مجرد طفل قد عبث بدمية، أي نعم كنت أنا الدمية، لكنك كنت طفلا رفع عنه القلم والعقل. وكان الحب والمجتمع كلاهما يقفان ضدي. عاطفة الزوجة التي استقرت في بيت يحرسه زوج قوي، ولا وجود لها خارج هذا البيت، ومجتمع يعتبر الثور المنفلت المغير علي داخل هذا البيت أمرا طبيعيا يجب التعامل معه بكياسة. الكياسة كانت أن أتحاشى اللكمات القاتلة ونستمر. أحببتك لأنك جعلتني أعتلي عرش النساء، بيت جميل ولباس فخم، ومجوهرات أنيقة وورود أسبوعية، والكثير من الغزل العلني المثير للعاب الغيرة الأنثوية والاشتهاء الذكوري. عشقت دور الزوجة الأميرة في قصرها المخملي. فتجاوزت اللطمة الأولى لأنني أنا من تسببت بها لكثرة عنادي، والثانية لأنني أنا من تجرأت على تغيير المحطة فيما أنت تتابع فريقك المفضل ولاعبك المفضل، لقد كلفني لاعبك المفضل الكثير من مساحيق التجميل لإخفاء الضرر اللاحق بوجهي. والثالثة والرابعة.. فما عرفت لطماتك النهاية التي وعدتني بها. أنا الملامة دائما، مزاجيتي وعنادي وصوتي ورائحتي وضحكتي ونظراتي ونفسي المتصاعد كانت دائما ما تستفز قبضتيك. أتأملك في لحظات صفوك حملا وديعا يراضيني كابنته الوسطى، ويحاول التأكد من أني باقية ودائمة. لقد تصالحنا مع الوحش الذي بداخلك، أنا وأنت نعرفه جيدا، نعرف فورات غضبه ولحظات انفلاته وبوادر خموده. أصبح سرنا الكبير، نخفيه عن العالم الذي ينظر إلينا كحمامتي سلام أبيض. لم تمنحني حتى الحق في الانهيار بعد كل حصة تأديب وتعذيب، كنت أنت الذي ينهار وأهرع أنا لمواساتك. لا أعلم كيف احتكرت كل الأدوار، الجلاد والضحية، ولا كيف قبلت أنا بذلك، كنتُ الكومبارس الذي يجسد كل مشاهد التعذيب ثم لا يُكتب اسمه في خاتمة الفيلم.
لقد أرهقني العجز، عجز عن الرحيل، وعجز عن البقاء. ما كنت أعرف عن العالم شيئا بدونك، حتى علاج جروحي الذي كنت تتسبب بها ما كنت أستطيعه لولاك. أدمنت ضعفي وقلة حيلتي، وأصبحت أنتشي بعودتك باكيا تمسح الدم عن أنفي المندك. كيف سمحت لك بامتلاكي كقطعة خردة!؟ وكيف وصلت لهذا المقت تجاه أنوثتي الضعيفة، التي جعلتني أفتقر لقوة تضاهي قوتك وتحول بين كرامتي وبينك. صرت عاجزة كريشة بطة مغتربة في مهب ريح جنوبية جافة تنذر ببدء فصل التصحر والتحسر.
اليوم كنت أستعد للنهاية، كنت أفكر كيف سيتكلم الناس والجرائد البائسة عنا، عن قصة زوجين اكتملا وتألقا في سماء الزواج المثالي فانتهت الزوجة في مشرحة مستشفى جامعي بين يدي أستاذ طب يُشرِّحها ويشرح لطلبة منبهرين كيف كانت نهايتها، وزوج ينتظر إعداما لا ينفذ. لقد خفت الموت تحت ركبتك، خفت أن أنتهي كجرذ بئيس، خفت أن يكون موتي أشد سخافة من حياتي. فأصدرت قراري تحت جسدك الثقيل ومن وسط وابل لكماتك بأنني سأقلع عنك، وسأكتفي شاكرة بهذا القدر من الهدم والضياع. لقد عرَّضت كل شيء معك للخطر، فما انتبهت أنك كنت الخطر الوحيد الذي عجزت عن تجنبه.
والآن، بعد فشل ملك الموت في نقلي إلى العالم الآخر، حان الوقت لأنقل أنا كتلة اللحم والدم والخراب هذه لبر الأمان، ولأرمم الدمار الذي تسبب كلانا به، أنت بإفلات الوحش وأنا بتحمله، ما استطعت.