شوف تشوف

الرأي

اعترافات بشار الأسد

عبد الباري عطوان
لا نعرف الأسباب التي دفعت بالرئيس السوري بشار الأسد إلى العدول عن إلقاء خطاب مباشر، مثلما أشارت بعض التسريبات، يخاطب فيه الشعب السوري لتبديد العديد من الشائعات وفضح الحرب النفسية، التي تتعرض لها بلاده مع قرب تطبيق قانون قيصر، وساهمت في تفاقم الأزمة الاقتصادية، والاكتفاء بتوجيه رسالة مكتوبة إلى كوادر حزب البعث قبيل انتخابات مجلس الشعب يوم 19 يوليوز المقبل، ولكن ما نعرفه، أو نستطيع استخلاصه، من بين سطور هذه الرسالة أن هناك توجها يطل برأسه بقوة نحو التغيير في النهج والأسلوب نأمل أن يكون مستداما وجذريا، وأكثر عمقا من كل الوعود السابقة في هذا المضمار.
الرئيس الأسد مارس نوعا «نادرا» من «النقد الذاتي»، عندما اعترف في رسالته المكتوبة هذه «بارتكاب حزب البعث الحاكم أخطاء خِلال مسيرته، مما أدى إلى تراجع دوره في بعض المراحل»، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما وضع أصبعه على الجرح بقوله «إن هذه الأخطاء تسببت في تغييب الكوادر ذات الكفاءة عن ممارسة حقّها وواجبها في الترشح والانتخاب، والمشاركة في إيصال القيادات في مؤسسات الدولة الوطنية المنتَخبة».
اللافت أن هذا النقد الذاتي جاء بعد بضعة أيام من عزل السيد عادل خميس، رئيس الوزراء من منصبه كرد على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وتعيين حسين عرنوس، وزير الموارد المائية، مكانه، وقرب البدء في تطبيق قانون قيصر وكأن الرئيس الأسد يريد أن يقول إن هذا التغيير هو بداية التحول الجديد الذي سيكون عنوان المرحلة المقبلة وكل تحدياتها.
***
ربما يجادل البعض بأن تقدم «السحيجة» والمنافقين، والفاسدين إلى الصفوف الأمامية، سواء في الحزب أو في مؤسسات الدولة، هو الذي أدى إلى حدوث الأخطاء المذكورة آنفا وأبرزها تقدم هؤلاء على حساب الكفاءات، واحتلالهم المواقع الرئيسية، ولعل انشقاق بعض هؤلاء في بداية الأزمة، ونقلهم البندقية من كتف الدولة إلى كتف المعارضة في انتهازية واضحة، وطمعا بالعشب الأكثر اخضرارا في الناحية الأخرى، مثلما يقول المثل الإنجليزي، أحد أبرز الأمثلة في هذا الصدد، فلم يكن مفاجئا أن من بين هؤلاء المنشقين رؤساء وزارات ووزراء، وسفراء، وقادة كبار في المؤسستين الأمنية والعسكرية، وأقارب من «عظمَة» رقبَة النظام، حصل بعضهم على ثمن انشقاقهم مقدما.
«أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا»، والاعتراف بالخطأ فضيلة، فالدولة السورية تواجه أكبر تحديين في تاريخها، الأول: فيروس كورونا، والثاني الأزمة الاقتصادية التي يعود تفاقمها إلى أسباب عديدة أبرزها القانون الأمريكي (قيصر)، وعقوباته التي تريد عرقلة عملية إعادة الإعمار، وتجويع الشعب السوري، بالإضافة إلى التحدي الأكبر المستمر منذ تسع سنوات، وهو المؤامرة التفتيتية للوحدتين الترابية والشعبية السورية.
ولعل نجاح الحكومة السورية في تطويقها السريع لأزمة تراجع أسعار صرف الليرة السورية بسبب المضاربات الداخلية والمؤامرة الخارجية، وتحسنها من 3000 ليرة إلى حوالي 2000 ليرة مقابل الدولار هو مؤشر أولي على تعاف اقتصادي، يأمل الكثيرون في الداخل السوري أن يتطور في الأيام والأسابيع القليلة القادمة.
استخدام سياسة القبضة الحديدية ضد المضاربين، وبعض رجال الأعمال المحسوبين غالبا على النظام، ومصادرة مئات الملايين من الدولارات، لعب دورا كبيرا في الاستقرار النسبي الذي تعيشه العملة الوطنية السورية في الأيام القليلة الماضية، ولكن المأمول أن لا يتم استبدال رجال الأعمال المتهمين بالفساد وجرى قصقصة أجنحتهم، بآخرين من الصنف نفسه، وربما أكثر سوءا وفسادا، فهذه ظاهرة يجب أن يتم اقتلاعها من جذورها كشرط أساسي لأي تقدم وتعاف في سوريا، والمسؤولون السوريون يعرفون جيدا ماذا، ومن نقصد.
الغالبية الساحقة من رجال الأعمال في سوريا كونوا ثرواتهم الضخمة بسبب الفساد، وحماية الدولة، أو بعض رجالها، وتفشي المحسوبية، ومعايير الولاء الزائف، وحان الوقت لإعادة هؤلاء الملايين من الدولارات التي جرى نهبها إلى خزينة الدولة وعَرَق الشعب، والوقوف بالتالي في خندق الدولة السورية، خاصة في هذا الظرف الصعب الذي تتعاظم فيه المؤامرة، ويصبح أكثر من 80 في المائة من الشعب السوري تحت خط الفقر.
الشعب السوري الذي تحمل الكثير من المعاناة طوال السنوات الماضية، يحتاج أيضا إلى التفاتة من حكومته وقيادته، خاصة أنه أثبت أعلى درجات الولاء والانتماء والحفاظ على وحدة بلاده الوطنية، وهذا الشعب يملك العديد من الكفاءات «غير الحزبية» التي تستحق أن تكون في الصفوف الأمامية أيضا، لأنه كان يقدم كل هذه التضحيات انطلاقا من واعز وطني مجانا ودون أي مقابل.
***
نحن على ثقة بأن الدولة السورية التي صمدت وقيادتها وجيشها العربي طوال السنوات التسع الماضية في وجه مؤامرة التقسيم والتفتيت التي تقف خلفها قوى عظمى، عالمية وإقليمية، مدعومة بمئات المليارات من الدولارات، وطابور خامس داخلي وخارجي، ستتجاوز هذه المحنة شريطة أن يستمر الإصلاح الداخلي والمراجعات النقدية الذاتية ومحاسبة الفاسدين وما أكثرهم، والاعتراف بالأخطاء وتكريس روح التسامح والتعايش والمساواة باعتبارها كلها، مجتمعة أو متفرقة، أقصر الطرق للإصلاح الحقيقي المنشود.
سوريا ستنتصر على قانون قيصر، وستهزم كل الذين يقفون خلفه، لأنها ليست لوحدها، وتستند إلى محور مقاومة صلب، كسر كل الحصارات والعقوبات المماثلة، وأبطل مفعولها، ووظفها في تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديا وعسكريا، وحقق التوازن والردع الاستراتيجيين، والدرع الدفاعي، عبر ترسانة من الأسلحة المتقدمة والدقيقة.. جميع الغزاة وعلى مدى 8000 عام اندحروا مهزومين، ومهانين، وبقيت سوريا شامخة.. والأيام بيننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى