شوف تشوف

الرأي

اطلقوا سراح القاتل

شامة

 

 

 

كتب رسالة يقول فيها «أمي، أنا أحبك كثيرا، كثيرا جدا، لكني لم أعد أستطيع، ابقي أنت هنا، وأكملي النضال، أما أنا فلم أعد أستطيع».
انهى الرسالة، وضع القلم فوق الورقة، ثم أنهى حياته.
هكذا تناقلت الأخبار نبأ قيام شاب من الأردن بالانتحار، كان طالب طب في بلده الأردن، مليئا بالحياة، أو هكذا بدا، قبل أن يقرر الرحيل في غير وقت رحيله.
لماذا يقوم شاب مثله بإنهاء حياته؟ ربما الجواب سيكون أنه يعيش في بلد مثل الأردن، في منطقة مثل الشرق الأوسط، يحيط به البؤس واليأس، لكن هل سيكون نفس الجواب على أولئك الشباب الذين توفرت لهم كل سبل العيش المريح في دولة مثل سويسرا، ومع ذلك يقومون بإنهاء حياتهم بأنفسهم؟
قد يقول قائل إن فتيان سويسرا وباقي دول الغرب فقدوا بوصلة الدين في حياتهم، لذلك الفراغ الروحي يجعلهم لا يترددون في الانتحار، لكن طالب الطب الأردني كان متدينا، ملتزما، ومع ذلك قرر الرحيل.
الرد على كل هذه التساؤلات، هو أن نعرف أنه في كل 40 ثانية، أقول ثانية، وليس دقيقة، تحدث حالة انتحار، وتشخص الأسباب في قاتل واحد اسمه «الاكتئاب».
حين قرأت خبر انتحار الطالب الأردني، بحثت كثيرا عن الاكتئاب، ليس لمعرفة أشياء كثيرة عنه، فقد زارني كثيرا، لكن لأعرف الحالة التي يبدو عليها شخص مصاب بالاكتئاب. تخيلته شخصا مثلي، حين أصاب بنوبة الاكتئاب، أكثر من النوم، أرفض مغادرة السرير، أرفض الاستيقاظ من النوم، أرفض الأكل، أرفض حتى الشرب، أرفض الحديث، أرفض الحركة، لكني تفاجأت بأن المصابين بالاكتئاب الحاد لا تنتابهم الأعراض التي تنتابني، المصابون بالاكتئاب الحاد، لا تبدو عليهم أعراض الاكتئاب.
امرأة بدت جميلة في فستان سهرة أسود، وكانت تبتسم وهي تلتقط لنفسها صورة “سيلفي”، في اليوم التالي، انتحرت، الفتاة كانت تعاني من الاكتئاب، ولم تكن تبدو عليها أعراضه.
أربعيني، كان يجدف القارب مبتسما لصديقته التي كانت تلتقط لهما صورة “سيلفي”، في اليوم التالي انتحر… كان يعاني من الاكتئاب، ولم تكن تبدو عليه أعراضه.
طفلة في الثامنة من عمرها كانت فرحة بفستانها الذي أحضره والدها لحضور حفل عائلي، في اليوم التالي حاولت الانتحار لكنهم أنقذوها، وشخصت حالتها بأنها تعاني من الاكتئاب.
فتى في الـ16 من عمره، كان يحضر مباراة كرك قدم رفقة والده، التقط صورة “سيلفي” وهو يبتسم ووالده بجواره، في اليوم التالي انتحر، كان بدوره يعاني من الاكتئاب، ولم تكن تبدو عليه أعراضه.
حالات كثيرة وجدتها في بحثي عن هذا القاتل، تقول شيئا واحدا، إن الاكتئاب مرض صامت، له علاقة بتغيرات أجسامنا، وليس مجرد حالة نفسية عابرة، ولا ضعفا في الشخصية، ولا في الايمان، هو حالة تصنف في خانة الصحة العقلية، هو حالة قد تتحول إلى قاتل حقيقي، ما لم نقم بإطلاق سراحه.
يفسر العلماء الاكتئاب بـ»الكلب الأسود»، كلب صغير أسود داخلك، يكبر ويكبر ويكبر، وفي غفلة منك تجده قد كبر كثيرا لدرجة أنك لم تعد موجودا، لم تعد مسيطرا، أصبح هو السيد، يجعلك ترى كل شيء مثله، أسود.
ويحذر العلماء كثيرا من أن الشخص المصاب بالاكتئاب ليس بالضرورة تبدو عليه أعراض الاكتئاب، فلا تبحث بين المكتئبين عن بشرة شاحبة، وعيون غائرة، ونظرات حزينة، فقد يكون المكتئب شخصا يبدو مبتسما، ضاحكا، مقبلا على الحياة، قبل أن تتفاجأ بخبر إنهائه حياته بنفسه، وتتساءل: »لماذا؟».
أسباب الاكتئاب كثيرة، ولا يخلو منها حتى السبب الجسماني، فهو ليس مجرد حالة نفسية كما سبق وأشرنا، وأعراضه كثيرة ومختلفة، لكن الشيء الوحيد الذي لا نكاد ننتبه إليه، هو أن الشخص المصاب بالاكتئاب ليس بالضرورة شخصا يعرف أن القاتل يسكن جوارحه. لذلك، بات لزاما علينا أن نغير من نظرتنا النمطية للطبيب النفسي، وبات لزاما علينا أن نفهم أنه إن كنا بدانا نتعلم ضرورة زيارة الطبيب من أجل إجراء فحوصات كاملة مرتين في السنة، فعلينا أن نتعلم زيارة الطبيب النفسي أيضا، وأنه حان الوقت لنتوقف عن الاهتمام بأجسامنا فقط، وأن زيارة طبيب الجسد، وزيارة قاعة الرياضة، ليس كافيا لحماية أنفسنا من المرض، فهناك قاتل يتربص بعقولنا، لا يعترف لا بعمر، ولا جنس، ولا دين، ولا تعليم.
علينا أن نقرر إطلاق سراح القاتل، وإطلاق سراحه يبدأ بالحديث عنه، عن الاكتئاب، والاعتراف بوجوده، بتربصه بنا، وأن لا أحد منا، لا أحد، وأكرر لا احد في هذا الوجود كله محمي من زيارة القاتل له، وأن هذا القاتل لا يهاب جانبك إلا حين تبدأ بالتحدث عنه، تبدأ في الاعتراف بوجوده، تبدأ في مواجهته، تبدأ في زيارة طبيب نفسي لفحص عقلك مثلما تحرص على زيارة طبيبك لفحص جسمك، تبدأ في الاعتراف بأننا نهمل الاهتمام بفحص عقولنا، نفسياتنا، أرواحنا، وندعي أن الجروح والندوب التي حفرها الزمن في أنفسنا جعلتنا أقوى حتى بتنا بها لا نشعر، في حين أن الاكتئاب يتغذى من هذه الندوب، وكثيرا من الاحيان يعشش حتى في ارواح صغيرة، تذكروا الطفلة ذات السنوات الثمانية التي تحدثت عنها سابقا، وحاولت الانتحار بسبب اصابتها بالاكتئاب.
اطلقوا سراح القاتل، بدل أن تكتفوا بتناقل خبر طبيب شنق نفسه، وطالبة ألقت بنفسها من طابق عال، فهؤلاء كانوا بيننا، مثلنا، وكان القاتل بهم يتربص، كما يتربص بنا… اطلقوا سراح القاتل، فلم نعد نتحمل المزيد من الراحلين عنا كل 40 ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى