ألقت الشرطة الأمريكة القبض على أكثر من 1400 شخص في عدة مدن أمريكية في الوقت الذي تستمر فيه الاحتجاجات بسبب وفاة جورج فلويد، حسبما ذكرت وسائل إعلام أمريكية، لكن من المرجح أن يكون الرقم الفعلي للمعتقلين أكبر مع استمرار الاحتجاجات.
وأعلن حاكم كاليفورنيا، غافين نيوسوم عن حالة الطوارئ في لوس أنجلس، مؤكداً أنه سمح بوصول تعزيزات أمنية إلى المدينة بعد اشتداد وتيرة المظاهرات. ويقوم 2500 جندي من الحرس الوطني بدوريات في شوارع مجموعة من الولايات.
وحسب شبكة سي أن أن، فقد تمّ إعلان حظر التجوال في 25 مدينة بـ 16 ولاية، ومن أبرز هذه المدن سان فرانسيسكوو أتلانتا وشيكاغو وفيلاديليفيا وكولومبيا وناشفيل وسياتل، كما فُرض حظر تجوّل ليلي في ولاية كنتاكي.
ولم تهدأ الاحتجاجات في الولايات المتحدة منذ مقتل مواطن أمريكي من أصل إفريقي اسمه جورج فلويد، خلال إيقافه من قبل أفراد الشرطة، بعدما وضع ضابط شرطة أبيض ركبته على رقبته لمدة 8 دقائق و46 ثانية. وقد توسل فلويد من أجل حياته قبل أن يسقط فاقدا للوعي ويموت في الشارع على مرأى من شهود وتسجيلات كاميرتي هاتفين محمولين. وما أشعل الاحتجاجات هو أنه اتخذ قرار بإيقاف هذا الشرطي، وبعد ضغط شعبي، تم اعتقاله ووجهت له تهمة مخففة جدا، وهي القتل من الدرجة الثالثة، والتي تعادل القتل الخطأ.
الأخبار
تهمة «القتل الخطأ»، التي وجهت لضابط الشرطة الأمريكي الذي قتل مواطنا أمريكيا من أصل إفريقي، لم ترق عموم الأمريكيين، لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم أن السلوك العدواني للشرطة تجاه الأمريكيين الملونين له سوابق، ويستند إلى ثقافة منظمة ومتجذرة.
مناخ العنصرية
رغم الآلة الإعلامية الضخمة التي ركزت في العقدين الأخيرين على وصول بعض الشخصيات من أصول إفريقية إلى مناصب عليا، ومن بينها باراك أوباما، محاولة إيهام العالم بأن صفحة العنصرية قد طويت، فإن الأمريكيين يعرفون جيدا أن ما يشاهدونه في أفلام هوليوود وبرامج الشركات الإعلامية العملاقة مجرد ماكياج يخفي واقعا آخر.
مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي لم يكن حادثا منعزلا، فقبل هذا الحادث بثلاثة أسابيع، قتل شرطي سابق رفقة ابنه شابا أسود كان يمارس رياضة الجري، تحت ذريعة أنهما ظنا أنه سارق. فرغم مرور 154 عاما على إلغاء العبودية في أمريكا، إلا أن التنميط العنصري ما زال يشكل قاسماً مشتركاً في مأساة الأمريكيين من أصل إفريقي. فتراث الرقّ في أمريكا مستمر، وبعض البيض لديهم نزعة الاستعلاء، ويعتبرون أنفسهم أفضل من باقي الأعراق.
الشعب الأمريكي لم يكن ليُعطي لما حدث تأويلا عنصريا لو لم يكن الرئيس الحالي دونالد ترامب قد وفر المناخ المناسب لهذا التأويل، وأعاد أمريكا إلى أجواء الخمسينات والستينات. ففي اليوم الأول لاندلاع الاحتجاجات في مدينة مينيابوليس، غرد ترامب في حسابه بـ«تويتر» بعبارة استخدمها قائد شرطة ميامي اشتهرت في الستينات بسياسة «كن صارما» ضد المتظاهرين السود أثناء أعمال شغب. حينها قال قائد الشرطة هذا، «لم نواجه أي مشاكل خطيرة في الانتفاضة المدنية والنهب، لأنني نشرت حقيقة أنه عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار».
وطوال عقود ما بعد الستينات تحولت هذه الجملة إلى وصمة عار على جبين الولايات المتحدة. وها هو ترامب يعيدها حرفيا، واصفا المحتجين بـ«قطاع الطرق»، لتشتعل أمريكا كلها وتصل النيران لحديقة البيت الأبيض. خصوصا بعد أن صنف موقع «تويتر» تغريدة ترامب بأنها «تمجد العنف».
وقال موقع «تويتر» إنه اتخذ قرار التصنيف هذا «بهدف منع الآخرين من استلهام أفكار لارتكاب أعمال عنف»، إذ لم يمنعها، ولكنه منع الإعجاب بها والتعليق عليها وإعادة نشرها.
هذا التصنيف الافتراضي هو أيضا كان يمكن أن لا يكون له تأثير كبير في تأجيج غضب الأمريكيين، لأنهم يتابعون هذه الأيام الحرب التي يخوضها ترامب على الشركات الكبرى للتواصل الاجتماعي، وخاصة «تويتر» و«فايسبوك». وآخر فصول هذه الحرب توقيعه الخميس الماضي أمرا تنفيذيا يهدف للحد من الحصانة القانونية التي تتمتع بها مواقع التواصل الاجتماعي، مهددا إياها بالإغلاق.
حسابات انتخابية
إن تصنيف تويتر لتغريدة ترامب حول إطلاق النار ليس وحده الذي أجج الاحتجاجات، بل لأن الأمريكيين يعرفون السياق الذي قيلت فيه في الستينات. ذلك أن مناسبة الاحتجاجات الدموية التي اندلعت حينها هي مؤتمر للحزب الجمهوري كان سيعقد في مينيابوليس، أي في المدينة نفسها التي قتل فيها جورج فلويد الآن. والأمر لا يخلو بكل تأكيد من حسابات انتخابية، خصوصا على بعد خمسة أشهر فقط على موعد الانتخابات الرئاسية.
وما جعل الأمر خطيرا هو أن ترامب اختار اللعب بأوراق عرقية وإيديولوجية. فبعد أن احتج كثيرون على جملته التي تدعو لإطلاق النار، برر ذلك بأنه لم يكن يعلم بمن قالها، وأن جملته ليست اقتباسا. لكنه لم يقف عند هذا، بل عاد واتهم تويتر مرة أخرى باستهدافه هو والجمهوريين والمحافظين وتسليط سيف الرقابة عليهم. مُذكرا أتباعه بأن شركات التواصل الاجتماعي سابقة الذكر حاولت منعه من الفوز في الانتخابات الرئاسية السابقة، وهي تفعل الأمر نفسه الآن.
لذلك انقسم الأمريكيون بين فئات تحتج ضد سياسة وثقافة عنصريتين يعمل ترامب الآن على إحيائها واستثمارها انتخابيا، في مقابل فئات نزلت للشوارع قصد دعمه ليفوز بولاية ثانية..، وكلا الفئتين نزلتا للشوارع.
من جهة أخرى، فالوضع الحزبي ليس أفضل حالا. فالحزب الديموقراطي اختار الدخول في السباق الرئاسي لشهر نونبر القادم. فجو بايدن لا يحظى بدعم كبير في صفوف جماعات ضغط كثيرة في الحزب الديموقراطي نفسه، ويرون فيه منافسا ضعيفا لترامب. فماضيه مع النساء كارثي، واتهامات التحرش تلاحقه قبل أن يصل للبيت الأبيض..، وقصص أسرته، وتحديدا ابنه مع الفساد المالي أضحت معروفة. لذلك فترامب ليس فقط واثقا من نفسه، بل ومستعد لعمل كل شيء ليفوز بولاية ثانية.
المثير للانتباه هنا هو بدل تهدئة الوضع، فإن ترامب تمادى في أخطائه، وفي ظرف قياسي، حيث هدد بإنزال أتباعه هو أيضا إلى الشارع، على غرار ما يقع في سوريا الآن، وحدث في موقعة الجمل إبان حسني مبارك. وهو يقصد طبعا جماعات عنصرية متطرفة بدأت الآن تعد العدة للنزول للشوارع قصد مواجهة المحتجين..، وفعلا فقد بدأت نتائج ذلك تظهر بمقتل بعض المحتجين برصاص مجهولين.
مينيابوليس، وهي المدينة التي شهدت منذ الثلاثينات موجات عنف قياسية، بسبب تغول المافيا هناك، لم تزل عنها صورة العنف في العقود الموالية، ليلتصق بها إلى اليوم اسم «مدينة القتل» «Murderapolis»، ها هي اليوم تشهد أحداثا دموية غير مسبوقة. يذهب كثيرون إلى اعتبار ما يحدث بداية مرحلة جديدة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حيث امتد العنف والتمرد الشعبي ليصلا ليس فقط لباقي مدن ولاية مينيسوتا التي تقع فيها هذه المدينة، بل وصل إلى 15 ولاية حتى الآن، ومنها ولايات معروفة بأنها الحضن التاريخي لليمين المتطرف على غرار مسيسيبي وفلوريدا وفرجينيا وألاباما وجورجيا، وهي الولايات التي يعرف الجميع أنها دخلت الحرب الأهلية الأمريكية دفاعا عن العبودية وضد تحرير الرق. بل ووصلت إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس، لكون القتيل جورج فلويد ينحدر منها وسيدفن فيها. ولمن لا يعرف فهيوستن هي مدينة العرب في الولايات المتحدة.
وبصدد الحديث عن العرب، فقد كانوا في قلب ما يحدث الآن، لكون المحل التجاري الذي ضبط فيه جورج فلويد متلبسا باستعمال ورقة نقدية مزورة من فئة 20 دولارا لاقتناء السجائر، هو محل يعود لفلسطيني، وهو من أبلغ الشرطة بالحادثة، قبل أن تتطور الأحداث، بحلول رجال الأمن ومحاولتهم اعتقال فلويد بالطريقة العنيفة التي شاهدها الجميع. لذلك من الطبيعي أن يتلقى هذا الفلسطيني اتصالات تهديدية بالقتل، مع أن ما قام به، بحسب تقارير إعلامية كثيرة، هو تنفيذ لإجراء عادي، حيث إن القانون يجبر التجار على التبليغ عن كل العملات النقدية المزورة.
وبالعودة إلى تطورات الوضع، فقد وصلت الاحتجاجات للبيت الأبيض، وتم تطويقه من طرف المحتجين الغاضبين. وترامب بدل أن يحاول تهدئة الوضع، فقد صب الزيت على النار، حيث طلب من عمدة مدينة واشنطن، وهي سيدة، نشر الشرطة لحماية البيت الأبيض. وهذه العمدة رفضت، لينشر تغريدة أخرى يهاجمها فيها ويشكك في كفاءتها وقيادتها. ثم أمر الحراسة الخاصة ببناء جدار يفصل الشباك الشهير لحديقة البيت الأبيض عن المكتب الرئاسي، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، وأرفق هذا بنشر تغريدة زادت الطين بلة، ومفادها أنه مستعد لتسليط الكلاب على أجساد من سيقتربون من الجدار، متهما هؤلاء بالانتماء لليسار المتطرف.
صراع التغريدات والتدوينات
المطلعون على الوضع الأمريكي يعرفون أن ما يحدث الآن له تأثير كبير على الانتخابات القادمة. غير أن الجديد هذه المرة هو أن المرحلة التي كانت فيها وسائل الإعلام التقليدية تتحكم بشكل كبير في توجيه الانتخابات عبر ما يسمى «فقاعات الترشيح»، هذه المرحلة قد ولت، والصراع الانتخابي سيكون عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، تماما مثلما حدث عندنا في «الربيع العربي». فحرب التغريدات والتدوينات والفيديوهات مستعرة. وستزداد في الفترة التي تفصل الأمريكيين عن الانتخابات.
لذلك فترامب فشل فشلا ذريعا على أكثر من واجهة، وعلى رأسها واجهة محاربة فيروس كورونا، إذ مايزال الفيروس يحصد أرواح الأمريكيين، وقد تجاوز اليوم 105 آلاف حالة وفاة و40 مليون أمريكي فقدوا وظائفهم في ظرف قياسي، وملايين أخرى ستلتحق بجيش العاطلين قريبا..، والأغلبية تتحدث هناك على أخطاء جسيمة في التدبير قام بها ترامب في هذا الملف. فالأمريكيون لم ينسوا أنه دعم أدوية، بل ومنها أدوية اعتبرها «معجزة ربانية»، ليتبين أنها أدوية تسببت في تفاقم الوضع الصحي لآلاف الأمريكيين، ولم ينسوا أيضا أنه دعا إلى حقن المرضى بمحلول تنظيف.
تطورات الوضع الداخلي الأمريكي كانت لها تداعيات فورية على مستوى العالم، ليس فقط في انتشار دعوات تطبيق العدالة لجورج فلويد، ولكن على المستوى السياسي، حيث استغل الأعداء التقليديون لأمريكا ما يحدث للشماتة، وعلى رأس هؤلاء نجد الصين، خصوصا وأن هذه الأحداث تزامنت مع توجه أمريكي لدعم استقلال هونغ كونغ عن الصين.
+++++
نافذة
الشعب الأمريكي لم يكن ليُعطي لما حدث تأويلا عنصريا لو لم يكن الرئيس الحالي دونالد ترامب قد وفر المناخ المناسب لهذا التأويل، وأعاد أمريكا إلى أجواء الخمسينات والستينات. ففي اليوم الأول لاندلاع الاحتجاجات في مدينة مينيابوليس، غرد ترامب في حسابه بتويتر بعبارة استخدمها قائد شرطة ميامي اشتهرت في الستينات بسياسة «كن صارما» ضد المتظاهرين السود أثناء أعمال شغب