استراتيجية الحرب ضد الجراثيم
بقلم: خالص جلبي
يقوم البدن بإنشاء سدود مناعية في وجه أي هجوم خارجي، تعبيرا عن الرفض الحاد لقبول أي سيطرة أجنبية وإعلانا عن الأصالة والذاتية، ومظهر الدفاع هنا سدود مناعية من الكريات البيضاء وقلاع مركزة أشبه بـ(البلوكوسات العسكرية) هي العقد اللمفاوية، وبهذه الطريقة يحافظ الجسم على نقاوة أخلاطه الداخلية بشكل مستمر. وهنا نشير إلى معنى اجتماعي هام وهو التعبير عن الذاتية بالرفض الحاد، إن هذا المظهر هو تعبير حيوي، أي مؤشر إلى الحياة ضمن الكينونة العضوية، وهذا الشيء يحدث أيضا على مستوى الكينونة الاجتماعية، وعندما تموت الكينونة العضوية فإنها لا تبدي أي رفض أو مقاومة لأي غاز دخيل، سواء على مستوى جرثومي أو خلطي بإدخال مواد غريبة. والشيء نفسه يحصل للأمة، عندما تموت بفقد الدفاع ضد أي هجوم عسكري أو ثقافي، وهكذا نرى التعبير عن الحياة يتجلى بالإعلان عن الذاتية، والرفض الحاد لفرض أي سيطرة لتغيير الكيان الداخلي…
تسلل مستمر وحراسة دؤوبة
تمثل الكريات البيضاء محطات الدفاع الأولى للبدن، بحيث إن فرقا ودوريات حراسة خاصة وبشكل مستمر تنزل بشكل انسلال من جدران العروق الدموية إلى النسج المحيطة وبدون رجعة، باستثناء اللمفاويات منها؛ حيث إن الكريات البيضاء ذات أشكال متنوعة واختصاصات متباينة، فمنها ذات الشكل المولع بالأصباغ القلوية (Basophil) أو على العكس الحامضة، أو الرفض الإيجابي؛ أي القيام بالوظيفة المناعية بدون التلون بلون معين، كما أن منها اللمفاوية (Lymphcite) ومنها ذات الطاقة العالية بتعدد مراكز القيادة، أي تعدد النويات، كما أن منها ذات المركز القيادي الواحد، وهو ما يسمى وحيدات النوى، وكأننا في هذه الأشكال نرى القيادة الجماعية في تعدد النوى، وهو ما يسمى الكريات البيضاء كثيرات النوى. في حين نرى القيادة الإفرادية في الأشكال الثانية، وهذا التسلل يشبه الفرق الفدائية تماما؛ لأن التسلل للقيام بعمليات جريئة للمحافظة على سلامة البدن وبدون رجعة، هذا الشرط يذكرنا بالفدائي تماما الذي يذهب للقيام بمهمة بدون شرط العودة، لأن الفدائي هو الذي يبذل نفسه بدون مقابل من أجل مثل أعلى.
وأما القلاع التحصينية فهي العقد اللمفاوية، التي تصطاد الجراثيم بعد اجتيازها الخط المناعي الأول، فهي بذلك تشكل خط دفاعي ثان، ولكنه أمتن من الأول؛ لأن العقد تنتفخ أثناء الإنتان من جراء القتال الرهيب، الذي يدور بين الجراثيم الغازية ومقاومة هذه العقد، التي تعتبر مصنعا لا ينضب للجنود والأسلحة وإنزال الفرق الفدائية والاحتياطية وإعلان النفير العام في البدن، بمظاهره المختلفة من انتباج العقد والآلام، وارتفاع الحرارة، والوهن العام، والتعرق، وتسرع القلب والنبض، وفقد الشهية للطعام، وانخفاض النشاط العام!
وعندما يستطيع الجرثوم اجتياز خط الدفاع الثاني؛ فإن الجسم بمجموعه العام يبدأ نضالا عنيفا تماما كما في حرب المدن والشوارع، حيث يقاتل كل فرد، بالإضافة إلى مراكز الدفاع الرئيسية الممثلة في الطحال والكبد والنسيج الشبكي الموزع في كافة أنحاء الجسم، وبذلك يدخل البدن مرحلة من أعنف المراحل، وبناء على مصير هذه المعركة يتقرر مصير الإنسان، وإن كان الضحايا أكثر، وهذا الذي كان يحدث للإنتان في ما سبق، أما الآن فإن الطب استطاع التوصل إلى بعض السنن في هذا الموضوع، وباكتشافه لهذه السنن استطاع تسخيرها، ومن أهم هذه الوسائل الدواء الذي يتدخل في استراتيجية خاصة لدعم نضال الجسم ضد الجراثيم، وهكذا يقلب كفة التوازن لمصلحة الجسم، وبذلك يتفوق الجسم فيقضي على الخصم. وهنا نشير إلى معنى هام في مكافحة الأمراض، فالمرض كما نرى هو تعبير عن ضعف الجسم أكثر مما هو تعبير عن قوة الجرثوم؛ لأن السدود والقلاع المناعية قوية للغاية، ففي حال ضعف التماسك والقوة الداخلية فإن المرض يظهر، وهكذا نرى هنا ديناميكية مستمرة ما بين الدفاع والهجوم، ما بين المرض والصحة، الجراثيم والبدن، الموت والحياة، وتدخل الطبيب ليس أكثر من دفع التوازن باتجاه الصحة، والدفاع والقضاء على الجراثيم، والآن لننظر إلى بعض هذه الآليات الجميلة.
خدعة حربية تقوم بها السولفا
الجرثوم كائن حي يتغذى ويعيش، يولد ويموت، يتنفس ويتكاثر، ولكن تكاثره مخيف إذ إنه يتضاعف كل نصف ساعة، أي يمشي وفق تسلسل تكاثري يصل إلى 48 انقساما في مدى 24 ساعة، وهذا يعني تحول الأرض كلها إلى كتلة جرثومية في مدى أيام، ولكن إرادة الله الحافظة للتوازن في هذا الكون سخرت له ما يضاده ويصده، وبذلك يقف عند حد لا يتجاوزه، وتوصل الطب إلى طريقة لموته هي قتله جوعا، وبذلك يموت بالمجاعة!
والسؤال كيف يتم ذلك؟ استطاع الطب بعد التعرف على آليات الجسم، وكشف القناع عن كثير من التراكيب الحيوية، أن يتوصل إلى معرفة كيف يتغذى الجرثوم، وهنا الضربة الفنية المحكمة، فماذا يحدث لو خدعناه بإدخال مادة تشبه الغذاء في مظهرها، ولكنها (سم) في حقيقتها، (فنضع السم في الدسم)؟
هناك إمكانية أن يخدع بها الجرثوم ويتناولها، وبهذه الطريقة يمكن ضربه مرتين؛ بتعطيل هذه المادة لوظيفته، وحرمانه من الغذاء من جهة ثانية.
إن السولفا كدواء يفعل مع الجراثيم هكذا؛ فهو يشبه مادة مهمة للجرثوم من جهة التركيب الكيماوي، وهي ما تسمى اختصارا (الحمض البانزوي PABA)، فإذا دخلت البدن تنافست معها واتحدت بالخمائر الموجودة في داخل الجرثوم، وهكذا يموت جوعا وعطشا، وينال جزاءه العادل، لأنه نغص على الإنسان طعامه وشرابه، وبذلك يكون الجزاء من جنس العمل.
والأمر نفسه يحدث في معالجة البرداء (الملاريا)، فسبب هذا المرض هو خلايا نشيطة تفتك بالكريات الحمراء في البدن وتتغذى بها، مما يحدث هذه النوبات الدورية المعروفة من الشعور بالبرد والحر والتعرق، فإن مادة الأتبرين أو الكينين تشبه الفيتامين B2 (الريبوفلافين)، فإذا أدخلت المادة إلى الدم هرعت الخلايا البلاسمودية (طفيليات المرض) للاحتفال والترحيب بها، ظانة أنها فيتامين النجدة، وصديق الشدائد، وغذاء التموين الذي تنتظره، ولكن هذه المادة ليست أكثر من فرق فدائية (كوماندوس) متسللة في ثياب الفيتامين B2 (الريبوفلافين)، بمعنى أن بناءها الكيماوي يشبه بناء الفيتامين، ولكن سرعان ما تدخل الخلايا المصورية وتفتك بها شر فتك، وهكذا يرتاح البدن من هذا المرض الخبيث. وبذلك يصدق قول الشاعر عليها:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق.