اختصار المسافات في واقعنا الجديد
بيير لوي ريمون
«في أغلب الأوقات، أعمل من البيت»، من منا لم يسمع هذا الكلام.. وليس في سياق الجائحة فقط، بل قبلها وقبلها بكثير. الفارق الوحيد أن هذا الكلام الذي ظل يعكس حقيقة واقعة في عالم المقاولات منذ عقدين على أقل تقدير، لم تلتقطها ولم تجد سبيلا إلى فهمها المدارك الذهنية لمن لم يشملهم الأمر عضويا، إلا تحت ظروف قاهرة (الموظفون مثلا…).
لكن إذا نظرنا إلى خريطة العالم الاقتصادي أمكن لنا أن نتذكر أن مفاهيم «المسافة» «المكان» أو «الاجتماع» أصبحت تتسم بدرجة من النسبية، تجعلنا نثبت أننا دخلنا «العالم الجديد» منذ زمان، ولم ندخله في صورة الانتقال المفاجئ من حالة «ما قبل» إلى «ما بعد»، ولكن بحكم التطور الذي شئنا أم أبينا، فرض قوانينه جاعلا من الاقتصاد العالمي مجموعة من الاقتصادات المترابطة على اختلاف أوزانها.
على اختلاف أوزانها، والعبارة مهمة هنا، لكون الاستقطابات التقليدية التي كانت قد جعلت الولايات المتحدة تحتفظ بميزة «الدولة الجديدة» صارت من خبر كان، بعد أن كانت الصين أول من زاحمتها هنا، يتذكر الفرنسيون كتاب وزير إعلام الجنرال دوغول، آلان بيرفيت: «عندما ستصحو الصين، سيزلزل العالم». انتهت استعارة الدولة الجديدة منذ زمان، واستعارة الزلزال الصيني أيضا بعد أن وقع فعلا، وحلت محله استعارة القرية الكونية التي تربط البشر بالتقنيات الافتراضية.
افتراضية… الكلمة هنا أيضا ذات دلالة، نكاد نمر عليها مرور الكرام، طالما اعتدنا على أن نسمي الافتراضي واقعا.. لكننا سنكون أقرب إلى الصواب إذا محونا كلمة «افتراضي» من قاموسنا، عندما يحين وقت مقاربة دنيا المبادلات الاقتصادية والمال والأعمال، ففيها كل ما هو افتراضي واقعي، حتى العملة الافتراضية… (وإلا لما كان ممكنا التعامل بها).
حري بنا إذن أن نتكلم عن الواقع الجديد، واقع يحتم إعطاء.. الأسبقية للمسافة. لكن للمسافة قصتها أيضا. حديثنا عن المسافة يطابق في الأغلب «اختصار المسافات» والكلام صحيح ودقيق، إذا ربطناه بالمعجزة الرقمية. غير أنه لن يكون أقل صحة ودقة، إذا ما ربطناه بالمعجزة الاقتصادية. وقليلة هي البلدان القادرة على اختصار المسافات (بعد أن ذرعتها طويلا حتى تتمكن من اعتلاء القمم التي تمنح لها صفة المعجزة الاقتصادية) مثل كوريا الجنوبية أو الهند، التي تعيش حاليا بين فكي كماشة فاجعة صحية، وأعلى معايير التطور العلمي، ومثل الصين.
أكتب هذه السطور وأنا أراجع مقالا يتناول اتفاقية «الإعمار مقابل النفط» التي وقعتها الحكومتان العراقية والصينية سنة 2020، والتي بموجبها تلتزم الصين بإعادة بناء البنى التحتية في مجالات النقل والتعليم والصحة والاتصالات… لم يعد اختصار المسافات حكرا على التقنيات الافتراضية، بل صار آلية رئيسية لكسب الرهانات الاقتصادية، وفق جغرافية العالم الواقع.
يتذكر الفرنسيون كتاب وزير إعلام الجنرال دوغول، آلان بيرفيت: «عندما ستصحو الصين، سيزلزل العالم». انتهت استعارة الدولة الجديدة منذ زمان، واستعارة الزلزال الصيني أيضا بعد أن وقع فعلا، وحلت محله استعارة القرية الكونية التي تربط البشر بالتقنيات الافتراضية