أول سيناريو يتم تداوله هو تجميد نشر النظام الأساسي في الجريدة الرسمية وهو بمثابة سحب غير رسمي للوثيقة واستئناف الحوار مع النقابات
المصطفى مورادي:
أعاد تمرير النظام الأساسي لموظفي التربية والتكوين من قبل الوزير الوصي على القطاع، شكيب بنموسى، الاحتقان إلى قطاع التعليم في بلادنا، إذ كان الإضراب الوطني عن العمل، الأسبوع الماضي، الأكبر منذ أكثر من عقد من الزمن، حسب مراقبين، فيما أكدت النقابات المشاركة في الحوار القطاعي، قبيل إخراج هذه الوثيقة إلى العلن، أنها لم توافق على النسخة التي تم «تهريبها إلى المجلس الحكومي»، لتجد الوزارة نفسها أمام مأزق حقيقي، إما المضي قدما في تنزيل النظام الأساسي ومن ثمة إصداره في الجريدة الرسمية، مع ما يعنيه ذلك من توترات، خصوصا وأن النقابات استدركت صمتها وانضمت للاحتجاجات، أو تجميد العمل بالنظام الأساسي مؤقتا وفتح باب الحوار مع المركزيات النقابية للاتفاق حول زيادة عامة في تعويضات المدرسين، خصوصا في المهام المرتبطة بالتدريس.
النقابات تنضم للاحتجاجات والوزارة صامتة
عرف اليوم العالمي للمدرس احتجاجات عارمة وصفها مشاركون ومتتبعون بأنها الأقوى منذ عشر سنوات، فضلا عن مستويات قياسية لنسب الإضراب، التي وصلت، بحسب مسؤولين محليين، إلى الإغلاق التام للمدارس. هذه الاحتجاجات حملت مستجدا مثيرا يتمثل في مشاركة النقابات التعليمية، بعد صمت دام لأيام، عقب مصادقة الحكومة على النظام الأساسي، غير أنه، في الوقت الذي صرحت فيه النقابات بأن نسبة المشاركة في إضراب الخميس فاقت 90 في المائة، وهي الأعلى منذ أكثر من عقد من الزمن، امتنعت الوزارة عن التعليق.
وفي هذا الإطار، أكد مسؤول نقابي أن «الحكومة قامت بتهريب النظام الأساسي إلى المجلس الحكومي دون أن نوافق عليه، وبالتالي عليها تحمل مسؤوليتها بشأن الاحتقان الذي سببه هذا النظام الأساسي».
وأضاف المسؤول ذاته أنه، «خلال آخر اجتماع عقدته الوزارة مع النقابات بتاريخ 20 شتنبر 2023، عبرنا عن رفضنا لهذا النظام كنقابات؛ لأنه سبق أن قدمنا ملاحظات ومقترحات وتعديلات لكن لم يتم أخذها بعين الاعتبار، وبالتالي لم نوقع عليه وتم تقديم المشروع للمجلس الحكومي دون موافقتنا كنقابات». وشدد المسؤول النقابي ذاته على أن «ما خلفه هذا النظام من احتقان أمر طبيعي وعادي لكونه لم يستجب لمطالب عدد من الفئات».
ومن ضمن الانتقادات التي وجهها المسؤول النقابي لهذا النظام الأساسي «احتفاظه بمنظومة للترقي بشروط نظام 2003 المجحفة نفسها، ومنظومة تقويم هي أيضا مستوردة من القطاع الخاص، مع تخصيص صفحتين لما يسمى بالمقتضيات التأديبية لنساء ورجال التعليم وتشديد العقوبات».
وانتقد المسؤول النقابي ذاته «إقصاء مربيات ومربي التعليم الأولي من هذه الوثيقة كأنهم لا يشملهم القطاع، وتفويض أمرهم للجمعيات والمؤسسات التي تستغلهم بأجور زهيدة وشروط عمل قاسية، ناهيك عن ضرب استقلالية هيئة التفتيش».
وتحدث الفاعل النقابي، كذلك، عما وصفه بـ«استهداف، بشكل واع، هيئة التدريس في الابتدائي والإعدادي التي تتجاوز 80 في المائة عبر إغراقها بمهام إضافية لا علاقة لها بالتدريس، وتكريس الأوضاع الكارثية على مستوى هيئة التدريس والعاملين والعاملات بالقطاع».
الكرة في ملعب الحكومة
أكدت مصادر الجريدة بأن الوزير بنموسى فوجئ من حجم الاحتجاجات ونسب الإضرابات، خصوصا وأن النظام الأساسي الجديد راهن على تقوية وظائف الرقابة الإدارية، عبر تخصيص تعويضات هامة للمديرين والمفتشين، وهم نسبة قليلة قياسا للأعداد الغفيرة للمدرسين. وعقد بنموسى اجتماعا عاجلا، يوم الخميس الماضي، خصص لتدارس تداعيات النظام الجديد على تنزيل ما يسميه «مدرسة الريادة».
وأكدت المصادر ذاتها بأن رئيس الحكومة أحيط علما بهذه الاحتجاجات، التي كانت موضوع تداول مطول مع وزيره في القطاع، لتجد الحكومة نفسها أمام سيناريوهات لكل منها تكلفة سياسية.
أول سيناريو تم تداوله، في الدائرة الخاصة المحيطة ببنموسى، تجميد نشر النظام الأساسي في الجريدة الرسمية، وهو قرار بمثابة سحب غير رسمي للوثيقة، وفي الوقت نفسه استئناف الحوار مع المركزيات النقابية، وليس التعليمية، لبحث إمكانات زيادة عامة في التعويضات المخصصة لهيئة التدريس التي تقود هذه الاحتجاجات، وتحديدا التعويضات المتعلقة بمهام التدريس (المراقبة، التصحيح، التكوين المستمر..). هذا السيناريو يعارضه كثيرون في ديوان الوزير لأن من شأنه أن يسيء لصورة الوزير في حكومة تراهن على بنموسى تحديدا للمضي قدما في تنزيل مشاريع التعليم في النموذج التنموي، ومن هنا تستنتج المصادر ذاتها أن بنموسى نفسه لا يميل لهذا السيناريو، لذلك فالقرار على مكتب رئيس الحكومة، وهو المخول، بموجب القانون، باعتماد القوانين رسميا أو إعادة فتح المجال للتداول فيها كما حدث مع نصوص قانونية كثيرة تم التصويت عليها، وبعضها صدر في الجريدة الرسمية ولكن لم يتم تفعيلها.
السيناريو الثاني، الذي يفضله بعض كبار مسؤولي الوزارة، هو الشروع في تطبيق النظام الأساسي وإصداره رسميا في الجريدة الرسمية، والدخول في مواجهة مع المدرسين بتنفيذ الاقتطاعات وتوجيه الاستفسارات، ومن ثمة المجالس التأديبية، وهذا السيناريو سيكون مكلفا للحكومة سياسيا لأنه سيقوي تيارات نقابية معارضة عارضت منذ البداية منهجية إعداد النظام الأساسي.
وفي هذا السياق ناشد فاعلون جمعويون، وعلى رأسهم المرصد الوطني للتربية والتكوين، رئيس الحكومة ووزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة إعادة فتح ملف النظام الأساسي المصادق عليه في المجلس الحكومي نهاية شتنبر الماضي، والعمل على عدم نشره في الجريدة الرسمية ومباشرة حوار مع النقابات الخمس مؤسس على أخلاق التفاوض والجدية والمسؤولية والجرأة في معالجة القضايا المطروحة، واضعين ما يقارب 9 ملايين تلميذ نصب أعين الجميع بهدف الإنهاء مع حالات «اللاستقرار واللاطمئنان» التي يعيشها أغلب أفراد أسرة التربية والتكوين.
//////////////////////////////////////////////////////////////////
هكذا تُزرع بذور اليأس
نافذة:
إذا استوعبنا مداخل الأزمة العميقة، فإن إشكالية «مشروع النظام الأساسي الجديد» لن تشكل سوى محطة من محطات الفشل الذي تقوده «الكفاءات» المركزية
منذ عقود، تعيش منظومة التربية والتكوين على وقع محاولات الإصلاح، ثم إصلاح الإصلاح وهكذا دواليك..، دون أن تفضي أي إرادة معلنة للإصلاح إلى إنصاف حقيقي لشرف مهنة التدريس وكرامة المنتسبين لها. وهكذا بقي السؤال معلقا حول الأسباب الكامنة وراء التعثرات المتكررة التي خلفت عاهات مستديمة في المنظومة التربوية، وراكمت مظلومية فئات واسعة من الشغيلة التعليمية، في وقت تعرف قطاعات وظيفية أخرى تحسنات مضطردة (القضاء، الأمن، التعليم العالي، إلخ)، أعادت الاعتبار لمواردها البشرية وحفظت كرامتها، وصانت الصورة المعنوية والمكانة الاعتبارية للقطاعات المعنية.
في قطاع التربية الوطنية، تحديدا، لا يمكن الاستمرار في اجترار الحديث عن عوز الإمكانات المالية أمام روائح تزكم الأنوف عن حجم الريع الذي تعرفه المنظومة، سواء في التعويضات التي يتواطأ على تقسيم كعكتها المحظوظون، حسب رتبهم الريعية؛ أو في الصفقات التي توفر مرتعا مباشرا وغير مباشر لـ«كائنات» لم تجرب يوما، بل ساعة، لأي وظيفة تربوية أو تعليمية، ما يجعلها بعيدة، كل البعد، عن تلمس الصعوبات اليومية التي يواجهها المشتغلون بالقطاع. وهو الوضع المتأزم، الذي لم يعد يتأفف من الصدح به حتى أقرب «الشركاء» الاجتماعيين للوزارة، بما فيهم نقابة ذات امتداد حزبي مشارك في الحكومة، يتربع اليوم أحد أطره على أعلى موقع إداري في هرم القطاع، ما يجعل الصمت عن الممارسات الريعية وتغييب ربط المسؤولية بالمحاسبة غير مفهوم.
الجانب الأكثر وضوحا في هذه الأزمة يكشف عن سبب مباشر آخر لخيبات الأمل المتراكمة، والمتمثل في وجود «ديناصورات» داخل القطاع عملت ومازالت تعمل -بدهاء- على إرتاج (verrouillage) مناصب المسؤولية، والتمكين لهزالة الكفاءات، بناء على منطق الولاءات والترضيات، مقابل إقصاء ممنهج وابتزاز مقصود، باسم صلاحيات الإدارة، لكل الكفاءات الوطنية الجادة والمُخْلِصة لأولاد المغاربة.
ولا يحتاج المتابع إلى أمثلة عن هذا النهج القار داخل المنظومة، إذ إن قصص تولي مناصب المسؤولية تتداول علنا، سواء على المستوى المركزي أو المجالي. ولعل تعمير الكاتب العام السابق ومواكبته لجل مشاريع «الإصلاح» الفاشلة، ثم انسلاله دون محاسبة إلى منصب وثير آخر، إثر هندسة حكومية على المقاس؛ وكذا طريقة تعيين الكاتب العام الجديد، بعد تهميش نتائج المباراة على المنصب، تقدم نموذجا صارخا على طريقة تدبير المسؤوليات، وهي لا تحتاج لأي تحليل عميق لفهم الحصار المضروب على مناصب المسؤولية.
إن هذا التفاعل الثنائي، المنتج لعقلية العجرفة والتهافت على الريع من طرف الحيتان المركزية وروادفها المجالية، ما فتئ يسمم المنظومة التربوية الراكدة بشكل تصاعدي، ما يجعل المجهود اليومي منصبا على تأمين حدود «المحميات»، بدل الاعتناء بالإشكاليات المنهجية والبشرية والمادية الكبرى لهذا القطاع الحيوي، لتصير النتيجة الحتمية إلى فقر كبير وغير مسبوق في الالتزام بمبادئ تسيير المرفق العمومي، لم تعد تتحملها حتى أوراق المجلس الأعلى للحسابات، لتفيض أخيرا إلى تقريع من طرف والي بنك المغرب، في تقريره المرفوع للملك، جعل وزارة التربية الوطنية نموذجا صارخا للرداءة في الحكامة.
أمام هذا الوضع التدبيري السوريالي من أغلب النواحي، يتابع الجميع كيف بقيت عجلات القطاع عالقة في وحل المصالح الضيقة، وعدم امتلاكها قدرة الدفع الكافية لتحريك هيكل المنظومة التربوية، والإقلاع نحو الآفاق المرجوة من طرف الدولة ومواطنيها.
إذا استوعبنا مداخل الأزمة العميقة، فإن إشكالية «مشروع النظام الأساسي الجديد» لن تشكل سوى محطة أخرى من محطات الفشل الذي تقوده تلك «الكفاءات» المركزية، ذات القدرة العجيبة على «تفريخ مزيد من المشاكل» ثم «التحكم في خيوط الأزمة»، في سياق تكريس هيمنتها وبسط نفوذ عقليتها المتهالكة، ليس على الشغيلة وحسب، وإنما أيضا على أي مسؤول سياسي أو إداري يلج القطاع دون سابق «ترويض» وهي بذلك، وإن كانت قد بسطت سيطرتها على وزير متأفف من تسيير القطاع أصلا، وفي حكم المستقيل عمليا، فإن عقليتها الاحتقارية مازالت ترى في الشغيلة التعليمية، وهيئة التدريس على وجه التحديد، مجرد «معدات».