اتحاد المغرب العربي
عبد الإله بلقزيز
في السابع عشر من فبراير 1989، وقع رؤساء دول المغرب العربي الخمسة (الراحلون الأربعة: الحسن الثاني، والشاذلي بن جديد، ومعمر القذافي، وزين العابدين بن علي، ثم معاوية ولد أحمد الطايع) المعاهدة، التي أنشأت في قمة مراكش «اتحاد المغرب العربي».
بعد ثلث قرن، ما زال هذا الاتحاد الإقليمي إطارا على قيد الحياة، ولكن على الورق فحسب، فيما توقف تماما عن العمل وبات ذكرى تبعث الحيرة في نفوس شعوب منطقة المغرب العربي!
وُقعت معاهدة «اتحاد المغرب العربي» بعد يوم من توقيع قادة العراق ومصر والأردن واليمن الشمالي في بغداد للمعاهدة، التي أنشأت «مجلس التعاون العربي». في الأثناء، كان «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» قد استتب له الأمر، فبلغ من العمر ثمانية أعوام، مقدما لدول المغرب العربي والمشرق العربي نموذجا للبناء التعاوني الإقليمي المنتج. ولم تفصح الاتحادات الثلاثة (وهي تنشأ) عن أي ميل نحو الانكفاء عن الإطار الإقليمي الأوسع لـ«جامعة الدول العربية»، بل ظلت تتمسك بالقول إن نجاح تجاربها الإقليمية الفرعية سيصب نتائجَه ومكتسباته، لا محالة، في رصيد الجامعة والعمل العربي المشترك، ويزودهما بأسباب وموارد جديدة للتطور.
انفرط «مجلس التعاون العربي»، بعد سبعة عشر شهرا من إنشائه، عند أول امتحان سياسي بمناسبة أزمة الخليج، صيف العام 1990، واندلاع حربه الثانية، شتاء العام 1991، فيما استمر «مجلس التعاون الخليجي»، على الرغم من الهزة العنيفة التي تعرض لها باجتياح الجيش العراقي للكويت، ثم انطلاق حرب «عاصفة الصحراء». أما «اتحاد المغرب العربي» فلم يتصدع بسبب ما حصل، واستمر عاملا حتى في الفترة الأولى من فرض العقوبات الاقتصادية والحصار الجوي على ليبيا (في العام 1992)، بعد اتهامها بالمسؤولية عن تفجير الطائرة الأمريكية، فوق سماء لوكربي باسكتلندا. وقبل منتصف تسعينيات القرن الماضي، بدا أن الاتحاد يتداعى بالتدريج، منذ إغلاق الحدود الجزائرية – المغربية في العام 1994، فتوقفت قممه عن الانعقاد، وإن استمر عمل هياكله وأجهزته ونشاط أمينه العام.
والحق أن إنشاء «الاتحاد» اقتضى جهدا كبيرا من قيادات الدول، وتنازلات متبادلة لا مهرب منها لفتح الطريق أمامه. وما من شك في أن الاختراق السياسي الذي أحدثه المغرب في علاقات دول المنطقة، بتوقيعه مع ليبيا معاهدة وحدة سميت معاهدة «الاتحاد العربي- الأفريقي» (وقعت بمدينة وجدة في 13 غشت 1984)، كان له الأثر الطيب في تهيئة أجواء المنطقة لاتحاد إقليمي؛ فالمعاهدة، من جهة، كسرت الجليد في العلاقات المغربية – الليبية، وحيدت ليبيا من المشاركة في نزاع الصحراء (حيث أوقفت دعمها لجبهة «بوليساريو»)؛ وهي – من جهة ثانية – ذللت أمام المغرب العقبة الكأداء التي مثلتها صعوبة التعامل مع معمر القذافي، فباتت علاقة الملك الحسن الثاني به طبيعية وقائمة على ثقة متبادلة. هكذا بدت معاهدة وجدة وكأنها «بروفة» سياسية ناجحة يبنى عليها في مشروع إقليمي أوسع؛ وهو عين ما حصل بعد أربعة أعوام ونصف العام.
ولم يكن المغرب والجزائر (من حيث هما الدولتان الأكبر في الاتحاد) قد نجحتا في تسوية خلافاتهما حول قضية الصحراء (إقليما الساقية الحمراء ووادي الذهب في جنوب المغرب)، بل كانتا لا تزالان على خلاف حين أقامتا – بمعية الدول الثلاث الأخرى – «اتحاد المغربي العربي». مع ذلك، تحلى الراحلان الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد بالحكمة وبعد النظر في التعامل مع خلاف البلدين، فغلبا المصالح الإقليمية المشتركة، واختارا تحييد قضية النزاع على الصحراء من علاقات البلدين الثنائية، كما من قضايا التعاون بين دول المغرب العربي. ومنذ وقع اللقاء بين الملك والرئيس الجزائري، بالمركز الحدودي بين البلدين (مركز العقيد لطفي أو- بتسميته التاريخية – زوج بغال)، في 4 ماي 1987، واستعيد وصل العلاقات المقطوعة، بات واضحا أن الأجواء تتهيأ نحو تدشين مرحلة سياسية جديدة بين دول المغرب العربي.
كان يمكن استيعاب أزمة لوكربي في «اتحاد المغرب العربي»، كما أمكن دول الخليج العربي استيعاب أزمة الخليج وتخطيها، ولكن أزمة العلاقة بين الدولتين الرئيستين في «الاتحاد» ما كان يمكن استيعابها، إلا من طريق العودة إلى مبدأ تحييد النزاع بين البلدين من ميدان العلاقات بين دول «اتحاد المغرب العربي»: المبدأ عينه الذي مكن الاتحاد من أن يبصر النور. لكن ذلك لم يحصل، من أسف شديد، بعد العام 1994. كانت أشياء كثيرة قد تغيرت: خرج الرئيس بن جديد من السلطة في مطلع العام 1992، وقام مجلس أعلى بدور الرئاسة، وشهدت الجزائر عشريتها الدموية، وظلت العلاقات المغربية – الجزائرية قيد أحكام الأزمة حتى حين تحسنت لفترة، ثم ما لبث «الربيع العربي» أن نشر الفوضى في المنطقة…
يمكن أن يكون «اتحاد المغرب العربي» وراءنا؛ ذكرى من الماضي تبعث الحسرة في الدواخل. ولكن يمكنه، أيضا، أن يكون قابلا للتحقق والترسيخ. كل شيء متوقف هنا على الإرادة وعلى حيازة الرؤية الحصيفة وإدراك مكامن المصالح العامة. لقد تقاتل الألمان والفرنسيون طويلا، ثم جنحوا للعقل ونداء المصالح، فأقاموا اتحادهم الإقليمي؛ فما الذي يمنعنا نحن من سلوك النهج عينه؟
نافذة:
يمكن أن يكون «اتحاد المغرب العربي» وراءنا ذكرى من الماضي تبعث الحسرة في الدواخل ولكن يمكنه أيضا أن يكون قابلا للتحقق والترسيخ