ابن قُرَّة
جهاد بريكي
في مدينتي، عاصمة الغرب القنيطرة، وبالضبط في الحي الذي قضيت فيه سنوات طويلة من عمري، الحي الذي دخلته تلميذة وغادرته طبيبة، يمر شارع يسمى شارع «محمد القري»، شارع معروف لأبناء القنيطرة، مجهول صاحب الاسم الذي يحمله. لم يخطر يوما ببالي أن أبحث عن هذا الشخص ولا عمن هو، ولا لماذا يسمى هذا الشارع باسمه. حتى حدث وأن زرت يوما صديقة لي بمدينة تاونات، وفي أثناء جولة لنا وسط ضواحيها وطبيعتها التي تسلب العقل، أخبرني أحد أقرباء صديقتي باسم قرية توجد على جبل بعيد «قرية بني قرة» وأنها عرفت على مر الزمان بأبنائها حفظة القرآن وقارئيه، فابتسمت وأخبرته ضاحكة أن بيتنا يوجد أيضا بشارع اسمه القري، ليفاجئني بأنه صاحب هذا الاسم هو أيضا ابن هذه القرية الصغيرة، وهو العالم والفقيه والمجاهد والشهيد «محمد بن أحمد القري». عاش طالبا للعلم حتى حصل على شهادة «العالمية» من جامعة «القرويين» ثم مدرسا، لينتقل إلى ربه شهيدا داخل سجون الاستعمار آنذاك بالراشيدية.
انتابني فضول كبير لمعرفته أكثر، فبحثت عنه لأجده شاعرا وأديبا وصاحب تراث مسرحي، ينكب على على قضايا الشعب والمقاومة والتصدي للمحتل، ودواوين شعر طبعتها شخصيته النضالية وهمه الإصلاحي وقضيته الكبرى في تحرير مجتمعه من الخرافة والجهل أولا ومن المحتل الجاثم على قلبه ثانيا.. كل ذلك وهو شاب في سنوات الشباب التي تجعل العقل طائشا والفؤاد فارغا، نقش اسمه عميقا في ذاكرة العلم والجهاد، وتوفي وهو ابن السابعة والثلاثين، وحصلت إحدى مسرحياته وهي «أدب العلم ونتائجة» – عنوان المسرحية وحده يكفي – على جائزة التأليف الأولى سنة 1929. قامة كبيرة وقفت لها إجلالا ومحبة. فأين هو الشهيد القري وغيره من العلماء والمناضلين الذين بنوا تاريخ هذا الوطن، وقصة مقاومته من وجدان أجيالنا وأبنائنا؟ كيف نتغنى بالعظماء الغربيين ونمجدهم وندعوا للاقتداء بهم، ونترك أمجادنا ونحن الذين نملك تاريخا يعج بأسماء كالقري الذي سجن وذاق ألوان العذاب، لأنه كان مصباحا يدعو لنور العلم، ولتحرير المرأة من حلكة الجهل؟ فأنشد يقول :
«وبقاء الفتاة جاهلة عار عليكم لا ينقضي الآبادا
أي دين جاء بحرمانها منه ظللتم لا تعرفون الرشادا».
القري كان أيضا شاعر رقيقا عذبا رغم قوته في مواجهة المحتل. كان يتغنى بالحب والمحبين، ولعل أجمل ما قال:
«هو الحب داء للنفوس محبب
وإن كان كل العاشقين يعذب
وإن كان لا يرثى لصب مذله
براه الهوى فهو الأسير المعذب
هو الحب في كل الأنام مسيطر
فمن شاء يرضيه ومن شاء يغضب».
هذا تاريخنا وهذه ذاكرتنا التي نسيناها وهجرناها، وهؤلاء رجالات وطننا، الذين جمعوا بين العلم والعمل والإصلاح، وقصصهم الحافلة بجميع أنواع الدروس هي التي يجب أن نلقنها لأجيالنا ونزرعها داخلهم، فلا خير في شعب لا يعرف من ماتوا ليعيش وطنه ولا خير في وطن لا يتذكر علماءه ومجاهديه.