ابن عطاء الله السكندري.. المحبّ الحكيم!
في عالم التصوف، الذي لا يجرّبه إلا الراسخون في جهاد النفس، لا بدّ وأن قلبك سيسري فيه من الحكم ما تعجب له كبار العقول، إن حالا أو مقالا، فلا أعرفُ أو حتى قرأت لصوفي إلا ونهلتُ منه بعض حكم. لكن الشيخ ابن عطاء الله السكندري (1260-1309م)، الملقب بـ«ترجمان الواصلين»، يبقى بالنسبة لي حالة خاصة، متفرّدة حد الاختلاف مع باقي التجارب التي عرفها تاريخ الفلسفة الصوفية في الإسلام. ولا أعرف هذا التعتيم العلمي الذي تمارسه بعض الجامعات أو من هم في مسؤولية دراسة تراثنا العلمي حول مضامين الفكر الصوفي لابن عطاء الله السكندري، فضلا عن مضامين أخرى تبقى في سراديب المجهول، لا حنين ولا رحيم يخرجها من ظلمات النسيان إلى نور الدراسة والتحليل. ولعل هذه السلسة من «ديوان المحبين» تلفت عناية المختصين والغيورين إلى تراث طواه النسيان، وزعمت العامة من جهال الناس أنه لا يسمن ولا يغني من جوع أبداً، هكذا بدون خبرة ولا تبصرة، فكان هذا ترديدهم منذ أن وقع على سمعهم الفكر العقلاني الصوفي، وكأن التجربة الروحية لا إعراب لها في مسار حضارة الأمم، وهم بذلك إنما يريدون أن يجردوا عن أنفسهم ماهيتهم البشرية ليلتحقوا بالأصنام والأحجار التي لا روح لها ولا قلب. ولا يقدر قيمة التراث الفلسفي والتربوي الصوفي إلا من كان له قلب يفقه به جواهر الأشياء وكانت له سابقة خير عند صاحب الشأن!
ومصنفه المعروف بــ «الحكم العطائية» أفضل ما صنّف في علم التوحيد، وأجلُّ ما اعتمد بالتفهم والتحفظ كل سالك ومريد. ويكفي أن كبار العارفين قاموا بشرحه، أمثال الشيخ أحمد زروق الفاسي، والشيخ أحمد بن عجيبة. كما له مؤلفات أخرى، منها كتاب «التنوير» و«مفتاح الفلاح» و«تاج العروس» و«عنوان التوفيق» و«القول المجرد في الاسم المفرد» وأخرى.. فالحمدُ لله الذي ملأ قلوب السالكين إليه بحكمه، أما الذين يذبحون ويقتلون الخلق تقرباً إليه فلا أمل لهم ولا قبر!
ولا يكفي أن نقول مثلا إن «الحكم العطائية» كانت نبراساً للمحبين ودستوراً لقانون السلوك الروحي، لذلك أثارت عند خصوم المتصوفة والتصوف الكثير من علامات الاستفهام، والإنكار معاً. بل من «المتنورين» في الفكر المتطرف من اعتبر أن ابن عطاء الله السكندري لا يمثل علماء الإسلام، وأن كتبه حول الحكم ليست من الإسلام في شيء، لمجرد أنه يقول مثلا «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن، فإذا شهدته كانت الأكوان معك»، وأن مثل هذا الكلام يؤيد نظرية الحلول والاتحاد ووحدة الوجود القائلة إن الخالق والمخلوق واحد. ولو بحثوا عن شرح ذوقي لتلك الحكمة لعلموا أنها من صميم تربيتنا الروحية الإسلامية، وهل يقبل الله شريكاً؟ وهل يغفر لمن يعبدُ سواهُ؟
والأكوان هي ما سوى الله، أو قل الماديات الفانية التي تغري شهوة الإنسان، وتدغدغ لا شعوره ومكبوتاته. فما دام الإنسان يعبدها فلن يدرك التحرر الذي تشير إليه كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، أي لا معبود إلا الله. وكل من لم يفلح في التحرر من سجن الأكوان وبقي محصوراً في هيكل جسمه فالأكوان حاكمة عليه، فهو –كما يقول أحمد بن عجيبة رحمه الله – يحبها ويعشقها وهي تبغضه وتبعده عن ربه، وهو يفتقر إليها وهي غنية عنه، وهو يميل إليها وهي غنية عنه، وهو يميل إليها ويحرص عليها وهي تفر منه، وهو يخاف منها ويهابها، وهي تخونه وترعبه، فإذا شهد مكونها وغاب عنها، وتحرر من رقها، كانت، حينئذ هي خادمته وهو حاكم عليها، هي تحبه وتعشقه، وهو مشغوف بحب خالقها، وهي تفتقر إليه وهو غني عنها، وهي تحرص عليه وهو زاهد فيها، وهي تخاف منه وتهابه وهو في أمن منها، فالجنة تشتاق إليه وهو غني عنها.
هكذا تتضح صورة الحكمة السابقة للشيخ ابن عطاء الله السكندري، فأين هو الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؟ أليس من علت همته عن الأكوان وصل إلى مكونها، ومن وقفت همته على شيء دون الحق صارت حياته إلى باطل؟ وحينئذ يصير الإنسان بحق خليفة الله تعالى في أرضه، الكون كله في قبضته، يخترقه متى شاء، ويصيره كيفما شاء، بكل مسؤولية، لأنه علّق همته بالله فصار كل ما في الكون عند قدميه.
أفلا تبصرون؟!