ابتسم.. أنت في دِلهي
يونس جنوحي
في الهند، يجري الجميع بسرعة نحو وجهات متعددة. ينامون باكرا جدا. باعة الأكلات السريعة صاروا جزءا واحدا من مشهد الضوضاء وزعيق السيارات. كل شيء هنا على الطريقة البريطانية. السيارات تتخذ من يسار الشارع طريقا لها، وأصحاب «التك تك» الشهير يقطعون الطريق كيفما اتفق.
في دلهي، أخبار كشمير تخيم على الأجواء. بحكم أن المدينة تعتبر تجمعا للوزارات ومقرا للبرلمان الهندي، المبني بدوره على الطريقة البريطانية. إنه أشبه بحلبة صراع للثيران. شكل دائري يحتل مساحة ضخمة جدا وسط مدينة عدد سكانها يتجاوز الثلاثين مليون نسمة، ومع ذلك تجد في مركزها ما لا حصر له من مشاهد المساحات الخضراء. يتجاوز عدد المتدينين الهندوس في الهند 800 مليون نسمة. بينما المسلمون لا يتعدون 200 مليون، وبينهما توجد طوائف أخرى تجسد بعمق التنوع الهندي واللغوي.
مزاج الهنود رائق في الغالب. لا وجود للمقاهي، إلا في ردهات استقبال الفنادق المصنفة التي يقصدها برجوازيو الهند لإحياء حفلاتهم وعقد اجتماعات «البزنس» الخاصة بهم. وهذا وحده دليل على أن غالبية شعب مدينة دلهي الكبيرة ليس لديهم الوقت للجلوس وشرب الشاي الهندي الأسود إلا في منازلهم.
حظيت بفرصة استثنائية، بدعوة من وزارة الخارجية الهندية لحضور حفل ديني وسط مدينة دلهي، يبقى دائما حكرا على الهندوس ولا يحضره المسلمون بشكل قاطع. 40 هكتارا محاطة بسور شاهق. نعم أربعون هكتارا، تمثل أكبر معبد للهندوس تم تشييده سنة 2005 لإحياء ذكرى أب روحي يحمل أفكار غاندي ومبادئه. تضم القلعة المبنية على طراز الهندوس مئات آلاف التماثيل التي تجسد آلهة الهند القديمة، بالإضافة إلى قبور عشرات آلاف الحكماء الهنود الذين جسدوا روح الديانة الهندوسية وزهدوا في الحياة وتفرغوا للتعبد وامتنعوا نهائيا عن الزواج.
يشرف على المعبد هندوسي في سن الأربعين، يحمل أفكار معلمه الأكبر الذي توفي قبل سنوات قليلة، سبق له العمل مهندسا في شركة أمريكية وقال لي إنه زار المغرب في رحلة عمل للشركة التي كان يعمل بها، قبل أن يقرر الزهد في كل شيء ويكرس حياته لخدمة المعبد والإشراف عليه. الحكومة الهندية لا تمول نهائيا هذا المعبد، ويعتمد أصحابه على تبرعات المحسنين الهندوس وهبات الزوار وحدها لصرف أجور آلاف المستخدمين في الأمن الخاص ومراقبة البوابات وإطعام المعتكفين داخل غرفه وقبوره المزينة بزخارف ذهبية، ثم إتمام أشغال بناء النافورات والمجسمات الضخمة التي تحكي قصص صراع آلهة النار والهواء والماء.
كانت لحظات لا توصف، وأنت تتأمل عشرات آلاف الهندوس الذين تركوا أشغالهم وتجارتهم وجاؤوا رفقة عائلاتهم لحضور أمسية عرض تتخللها أناشيد دينية تجسد قصص الحكماء الهندوس القدامى، والتي استعملت فيها تقنيات الأضواء والألعاب المائية والعرض باستعمال تقنية 3D المتطورة. كل هذا مع حظر استعمال الهواتف النقالة نهائيا.
كنا أقلية نتابع المشهد من منصة تتيح رؤية آلاف الجالسين في المدرجات وهم يتمايلون مع أنغام الترانيم الدينية وتحركات نافورة الماء الضخمة والألوان ويتخشعون مع الكلمات. عشرات الآلاف لا ينبسون نهائيا بكلمة ولا وجود نهائيا للهواتف النقالة. يتعين على الجميع تركها قبل دخول المعبد في أماكن مخصصة لهذا الغرض ومن ثم المرور عبر نقاط التفتيش حيث لا تساهل نهائيا مع تمرير الممنوعات إلى داخل المعبد.
لا يوجد أي إنسان سبق له إدخال هاتفه النقال إلى المعبد منذ تشييده. لا أحد صوّر تماثيل الحكماء الهندوس المصنوعة من الذهب الخالص، لأنهم يعتبرون ذلك انتقاصا من قيمتها الروحية.
عند انتهاء الحفل الذي استمر لساعة كاملة، انسحبت الحشود بهدوء كبير، نحو وسائل النقل العمومي التي وضعت رهن إشارات الحشود، مع إعطاء الأسبقية لمجموعات قادمة من المدارس كل أفرادها أطفال دون العاشرة. بينما نحن توجهنا بدعوة من مدير المعبد إلى رؤية قاعة خاصة يتخشع داخلها معتكفون هندوس تركوا وراءهم جامعات عريقة في أمريكا وبريطانيا كانوا يشتغلون داخلها كأساتذة باحثين ومهندسين في شركات الطيران والصناعات الدقيقة، وتفرغوا للتأمل الروحي وارتداء الملابس البرتقالية الخاصة بالزهاد.. لقد كانت تجربة رائعة بحق.
ووسط تلك الأجواء الفريدة التي قد لا يعيشها المرء إلا مرة في حياته، تذكرتُ، يا للمفارقة، أجواء «كازا» التي لا يساوي سكانها بسياراتهم عدد سكان حي واحد في «دلهي»، ومع ذلك تكثر أعمال التخريب بعد كل مباراة.