إيرين بيليسير.. زوجة برادلي التي قضت حياتها بين محاكم المغرب وسجون تل أبيب
حسن البصري
ولد البشير برادلي سنة 1905 بمنطقة الشياظمة التابعة لإقليم الصويرة، حل بالدار البيضاء رفقة والده وعمره ثلاثون سنة، حيث اشتغل مساعدا لميكانيكي في ورشة لإصلاح عوادم السيارات (الشاكمات). عاش الفتى متنقلا بين الحرف وكان من أوائل المغاربة الحاصلين على رخصة السياقة، مما مكنه من الانضمام إلى المقاومة إذ ساهم في ترحيل بعض آلياتها، قبل أن يشتغل في نقل العساكر والمغاربة العاملين في ثكنات الأمريكيين بالنواصر ضواحي الدار البيضاء.
تعددت الروايات حول الاسم العائلي، حيث ذهبت ابنته غيثة إلى القول بأن والدها البشير كان معجبا ببطولات العسكري الأمريكي عمر برادلي فحمل لقبه، بينما الرواية الأقرب إلى الحقيقة هي التي تشير إلى أن اسمه الأصلي هو البشير بنعمر الشيظمي البرادعي والتي تحولت إلى برادلي.
لم يتزوج البشير إلا بعد أن قارب عمره الأربعين ربيعا، حيث ارتبط بمولدة فرنسية من أصول إسبانية تدعى إيرين برادلي بيليسير، ابنة أحد كبار تجار الخضر والفواكه، وكانت تقطن رفقة أفراد أسرتها في حي عين السبع، اعتنقت الزوجة المسيحية الديانة الإسلامية فور زواجها، وعاشت معه في بيت مكترى بحي المعاريف قبل أن ترافقه في رحلة لا تخلو من المحن.
أسس الزوج برادلي شركة للنقل مقرها في طريق مديونة، رفقة شريكيه عبد الرحمن رزق ومحمد لعروسي، الذي تزوج من أنطوانيت شقيقة إيرين زوجة برادلي، وبدأت الأسرة تجني ثمار جهدها حيث ظهرت عليها ملامح الثراء من خلال العيش الرغيد في فيلا بشارع أنفا.
لكن البشير توفي في إسبانيا سنة 1966 بإسبانيا، وظلت وفاته لغزا محيرا، قررت زوجته إيرين دفنه في مدينة طنجة وعادت إلى الدار البيضاء رفقة ابنتيها نادية وغيثة ثم عبد الرزاق، وبعد انتهاء مراسيم التأبين، وضعت الشركة تحت الوصاية القضائية لأن ابنتها غيثة كانت قاصرا، لتبدأ معركة طويلة بين ردهات المحاكم خرجت منها الزوجة بمعرفة تامة بالفصول القانونية، سيما أن أولى المعارك القضائية خاضتها مع شريكي زوجها رزق والعروسي هذا الأخير سيخلف إيرين في تدبير الشركة فيما ورثت الزوجة ثمن تركة زوجها وخصص نصيب لعبد الرزاق ابنها الكفيف، المزداد سنة 1943، وحصة قسمت بين غيثة ونادية، قبل أن يكشف شريكاه عن وثيقة «اعتراف بدين» وقعه البشير لفائدتهما. ظلت إيرين وحدها في خندق المواجهة بعد أن اختارت نادية وغيثة النضال من أجل نصرة القضية الفلسطينية، حيث انخرطتا في إحدى خلايا منظمة التحرير بباريس حيث كانتا تتابعان دراستهما في جامعة السوربون، وفي سنة 1970 تم إرسالهما إلى إسرائيل لتنفيذ عملية فدائية فتم اعتقالهما في مطار تل ابيب وحكم عليهما بخمس سنوات سجنا. وفي السجن انخرطت الشقيقتان في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عام 1973، وبعد خروجهما من السجن التحقتا بالمقاومة الفلسطينية في لبنان حيث قضتا سبع سنوات قبل عودتهما إلى المغرب، وفي بيروت تزوجت نادية من فلسطيني تقاسم معها السلاح والحب يدعى مصطفى جفال وعادا سويا إلى الدار البيضاء بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حيث اشتغلت نادية في مجال الصحافة، إلى أن توفيت سنة 1995، لتبدأ جولة أخرى من المعارك القضائية بين الزوج الفلسطيني وإيرين وغيثة في نزاع طويل حول شركات وعقارات وتركة.
عاشت الأسرة حياة الرفاه قبل وفاة الوالد البشير، حيث كانت الأم إسبانية الأصول تحرص على تربية أبنائها وفق أعراف أوربية، حيث انتدبت مربية إسبانية، وفي المدرسة الخاصة بأبناء المعمرين كانت نادية وغيثة المغربيتان الوحيدتان في مؤسسة فرنسية، «شعرنا بأننا مرفوضات ولذلك كنا نبحث عن هوية عربية، لقد تم قبولنا فقط لأننا من أم إسبانية».
بعد الحصول على شهادة الباكلوريا انتقلت نادية وغيثة إلى فرنسا، رفقة الوالدة التي حرصت على تسجيلهما في أكبر الجامعات، لكن القدر كان يخفي أشياء أخرى، إذ سرعان ما حصلتا على شهادة النضال، وانتهى بهما المطاف في سجون إسرائيل.
خلال المحاكمة عانت الأم إيرين كثيرا، وهي تتنقل بين الدار البيضاء وباريس وتل أبيب، «كانت هناك الكثير من التدخلات فقد تدخلت فرنسا والمغرب وكان الملك الحسن الثاني يهتم بنا، إذ أرسل مستشار الملك أمي إلى الأراضي المحتلة لتوكيل محامين لنا»، تقول غيثة.
كانت الأم تقوم برحلات مكوكية بين المغرب وإسرائيل، ساعدتها جنسيتها الإسبانية على التنقل بحرية أكثر، بحثا عن كيفية تحسين شروط سجن ابنتيها وتخفيف العقوبة، لكن بعد قضاء خمس سنوات في المعتقل، رفضت نادية وشقيقتها العودة إلى المغرب وضد رغبات الأم التحقتا ببيروت حيث تابعتا النضال، لتقضي الأم عمرها في البكاء.