رامي الخليفة العلي
جرت خلال الأسبوع الماضي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فكانت النتائج خالية من أي مفاجآت، حيث تقدم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون النتائج بما يقارب 28 في المائة من الأصوات، فيما جاءت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، في المرتبة الثانية بنتيجة 23 في المائة من الأصوات، وحل مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلونشون، في المرتبة الثالثة بنسبة 22 في المائة، بما يعتبر أكبر الخاسرين. وبفارق كبير، حل المرشح المتطرف إريك زيمور، في المرتبة الرابعة بنسبة 7 في المائة.
غير أن المفاجأة الكبرى كانت في الحزبين (الجمهوريين والاشتراكي)، فقد خرجا بخفي حنين، وهما الحزبان اللذان تناوبا على السلطة على مدى ستة عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الانتخابات الماضية في العام 2017، حيث خرجا من اللعبة السياسية مشتتين وممزقين ولم يستطيعا طوال السنوات الماضية توحيد الصفوف، أو إعادة النظر في النهج والاستراتيجية، وتقديم نقد ذاتي يعتد به.
هذه الانتخابات تكشف إلى حد بعيد مزاج الناخب الفرنسي، وحالة القلق التي يمر بها طوال السنوات الماضية. لقد سئم هذا المواطن من اللعبة السياسية، ومن المؤسسة الفرنسية التي هيمنت على السلطة طوال السنوات الماضية، لم يعد يرى أن هناك فرقا حقيقيا بين اليمين الديغولي ويسار الوسط، الحلول التقليدية التي تبنتها الطبقة السياسية، بشقيها اليمين واليساري، لم تعد قادرة على إبداع حلول للمشاكل التي يعاني منها هذا المواطن، خصوصا أولئك المهمشين والفقراء وما تبقى من أبناء الطبقة الوسطى، التي راحت تتآكل بسرعة كبيرة، منذ الأزمة الاقتصادية في العام 2008 وحتى اليوم.
رفض الناخب الفرنسي المعالجة التقليدية، ولم يعد لديه كبير ثقة في المؤسسة السياسية التقليدية، فكان أمامه أحد خيارين: إما إجابة غير تقليدية وتنحو باتجاه التطرف، سواء نحو اليمين مع حزب الجبهة الوطنية الممثلة بمارين لوبان، التي تقول ببساطة إن كل منجزات الدولة الحديثة ومنظومة القيم التي حكمت فرنسا، بل والدولة الحديثة برمتها ليست قادرة على مساندة المواطن؛ لذلك لا بد من العودة إلى الدولة الأمة، والابتعاد عن كل منجزات العولمة السياسية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، والحفاظ على هوية الشعب الفرنسي، بإبعاد المهاجرين، وأن تكون فرنسا للفرنسيين. أو الإجابة غير التقليدية الأخرى، فتوجهت نحو اليسار المتشدد ممثلة بجان لوك ميلونشون، الرافض بشدة للنموذج الغربي الليبرالي، ويريد ابتداع نموذج فرنسي يساري يذهب بعيدا في دور الدولة في الحياة الاقتصادية، بينما يرى أن الجاليات الأجنبية هي إغناء لفرنسا، مسألة الهجرة بالنسبة إليه هي إبعاد للفرنسيين عن المشاكل الحقيقية.
طوال السنوات الماضية حاول اليمين المتطرف كما اليسار المتشدد، التخفيف من الخطاب الجامد وإحداث مرونة أكبر، فتحدثت لوبان عن الوضع الاقتصادي ومعاناة الفرنسيين الاقتصادية، أكثر من حديثها عن قضايا مثيرة للجدل مثل الإسلاموفوبيا والاتحاد الأوروبي وغيرهما من القضايا الخلافية، وهكذا فعل ميلونشون عندما حاول الاقتراب من هموم المواطن الفرنسي.
في الانتخابات الماضية اختار الفرنسيون الوسط شكلا، والبراغماتية الشديدة مضمونا. الرئيس ماكرون لا يمثل الوسط، ولكنه شخصية براغماتية تختار الحلول، سواء كانت تنتمي إلى اليسار أو اليمين، فقد ضم فريقه الرئاسي كثيرا من الخصوم الذين كانوا سابقا في الحزب الاشتراكي أو الجمهوريين، ويبدو أن هذا الخيار مستمر مع الفرنسيين، خلال السنوات القادمة، إذا لم تحدث مفاجأة.