أحمد مصطفى
في كلمته الافتتاحية أمام مؤتمر البعثات الدبلوماسية الأوروبية حول العالم، اعترف مفوض السياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، بأن العالم ليس أحادي القطب، ولا حتى ثنائي القطب تتنافس فيه أمريكا والصين، بل متعدد الأقطاب.
ورغم أن كثيرا مما تحدث به في خطابه الطويل للدبلوماسيين الذي يتبعونه لا يمكن الاتفاق معه، إلا أنه أحسن التعبير عن الوضع المحيط بأوروبا، وإن كان من منطلق مصلحتها، حسب ما يراها.
بوريل قال إن أوروبا بنت رخاءها الاقتصادي على دعامتين من خارجها، هما الطاقة الرخيصة من روسيا والسوق الهائلة في الصين اقتصاديا، والاعتماد على الحماية العسكرية الأمريكية أمنيا. وأضاف أن كل ذلك لم يعد موجودا، وعلى أوروبا الاعتماد على نفسها. ولعله بذلك يحفز دبلوماسييه على تعزيز التعاون مع كل البلاد والمناطق التي يعملون بها حول العالم. وإن كان حذرهم من أن تلك الدول، مهما كنت صغيرة وحتى فقيرة وتحتاج الدعم والمساعدات، لم تعد تقبل بأن تكون «تابعة»، ولا ترى مصلحة في أن تلبس ثوب الغرب.
لم يعترف الدبلوماسي الأوروبي الأول طبعا بأن أحدا في العالم لم يعد يقتنع بخطاب «الوعظ» الغربي المنافق، في ما يتعلق بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. فمن الصعب على أي خواجة غربي، أمريكي أو أوروبي، أن يعترف بتلك الحقيقة. ومع كل ذلك كان كل توجيهه أن أوروبا الآن بحاجة للتعاون مع الجميع، إلى جانب الاعتماد على نفسها.
بالطبع لا يمكن أن يتم ذلك، إلا على أساس المصالح المتبادلة. وفي حالة المصالح، لا يمكن أن تطلب من الآخرين أن يتخذوا موقفك من أزمة ما أو مشكلة ما مثل الحرب في أوكرانيا. للخواجة أن يبني موقفه على أساس مصالحه، لكن لا يتعين عليه أن يطلب من الآخرين أن يتفقوا مع مصالحه بدعاوى دعائية من قبيل ديموقراطية أو مبادئ، هو أول من يضرب بها عرض الحائط حين تقف في طريق مصالحه.
لا أحد يؤيد الحرب، بما فيها من دماء ودمار، لكن في الوقت نفسه لا أحد يريد أن يصطف مع هذا الطرف دون الآخر، لمجرد أنه يدعي مكانة أخلاقية فوقية، خاصة إذا كان هذا الاصطفاف ضد مصلحة من لا يريد اتخاذ موقفا.
أما التلفيق والتضليل بهدف الابتزاز وتبرير الضعف والأخطاء، فهو غالبا ما يرتد على من يقوم به. فالسياسيون في الغرب لا يملون من تكرار أن الأزمات الاقتصادية في بلادهم سببها حرب أوكرانيا، مع أن كل تلك المشاكل بما فيها أزمة الطاقة في أوروبا بدأت منذ النصف الأول من العام الماضي. ولم يعد ينطلي على الجماهير العادية تلك الدعاية السياسية، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو من يرفع كلفة فواتير استهلاكها المنزلي.
يقوم الإعلام في الغرب منذ اليوم الأول لحرب أوكرانيا بدور دعائي فج، يتجاوز إعلام التعبئة الحربي في أي بلد من العالم النامي والفقير. والناس العاديون في الغرب، لمن لا يعرف أو يتصور العكس، يصدقون بسهولة وليس لديهم ما لدى شعوب بلادنا مثلا من اهتمام بالسياسة أو الأمور العامة، إلا في ما يتعلق بتفاصيل حياتهم اليومية. ويستغل الإعلام ذلك بالقيام بالربط بين الأحداث والنتائج بطريقة تدعم توجها بعينه، حتى لو كان يجافي الحقيقة.
في هذا السياق، يشن الإعلام الغربي – وللأسف ينقل عنه بعض العربي – حملة ممنهجة على كل من لا يعادي روسيا، أو يدمر مصالحه بالوقوف إلى جانب الغرب في الصراع الدائر في أوكرانيا. ولعل أكثر وجوه تلك الحملة صفاقة، هو عدم مناقشة ما يطرحه السياسيون في أمريكا، وإلى حد ما في بريطانيا، من «شيطنة» لدول الخليج وتصويرها أنها متحالفة مع روسيا ضد الغرب، لأن منظمة «أوبك» وشركائها قرروا خفض إنتاج النفط مليوني برميل يوميا.
الحقيقة أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي تتصدر تصريحاته تلك الحملة، هو أكبر من حاول التدخل في سوق النفط العالمية لخفض الأسعار، بقراره النادر سحب عشرات ملايين براميل النفط من المخزون الاستراتيجي وطرحها في السوق، بهدف خلق تخمة عرض تغرقه وتدفع الأسعار إلى الهبوط.
في المقابل فإن كل قرارات «أوبك»، المبنية على الأرقام والتوقعات استنادا إلى بيانات حكومات المستهلكين (وأغلبهم في الغرب)، تستهدف الحفاظ على معادلة العرض والطلب لمصلحة أعضاء المنظمة، من منتجين ومصدرين ومصلحة المستهلكين على السواء. وحين تتصرف أمريكا أو روسيا أو غيرهما بما يضر باستقرار سوق الطاقة، فمن حق «أوبك» ودول الخليج وغيرها الرد على ذلك بكل ما تملك من أدوات. ليس فقط من باب المصلحة الوطنية، وإنما أيضا ليعرف الخواجة أن أحدا لم يعد «تابعا»، ولا يقبل أن يملى عليه تصرفه لصالح بلده وشركائه – كما ألمح جوزيف بوريل في كلمته.
نافذة:
للخواجة أن يبني موقفه على أساس مصالحه لكن لا يتعين عليه أن يطلب من الآخرين أن يتفقوا مع مصالحه بدعاوى دعائية من قبيل ديموقراطية أو مبادئ