إنما نحن جوقة العُميان..
الداخلية تؤدب 365 عون سلطة. جميل.. لو كانت تؤدب رجل سلطة واحدا كل يوم، للزمها الأمر سنة كاملة من التأديبات بالضبط، وإذا كانت السنة كبيسة لا قدّر الله، لاستلزمها الأمر تأديب عون سلطة إضافيا لتكمل 366 يوما.
الحمد لله إذن على نعمة الانتخابات التي يمكن أن تختزل تأديبات سنة كلها في يوم واحد فقط.
صفّق الناس لـ«جوق العميين» في القاعات السينمائية، لأنه يصف حالة مغرب نهاية الستينات وبداية السبعينات، ولا بد أن جزءا كبيرا من قصة الفيلم، الذي حاز جوائز كثيرة، يمكن أيضا إسقاطها على المغرب الذي نعيشه اليوم.
نفس هموم الكادحين الذين يرسلون أبناءهم إلى المدرسة العمومية، لازالوا إلى اليوم ينتظرونهم في آخر منعرجات الحياة، والذاكرة معا، ليصبحوا رجالا بأقمصة بيضاء وربطات عنق، ويحققوا ما عجز آباؤهم عن تحقيقه..
نفس النسوة، يتجمعن اليوم على قارعة الطريق ومداخل الأحياء، للنميمة الحلال، واستحضار عيوب الجارات والتذمر من نكد الأزواج ولومهم على مزج الحياة بكثير من المرارة..
لا يزال هناك مزاولون لمهن سابقة، يسقطون من أعلى، بالمظلات، في مهن الشرطة والصحافة. يحدث أن يكون رئيس «جوق» مفتش شرطة بالصدفة، ويتوسط للسكارى من أبناء الحي وأصدقاء العائلة والجيران، حتى يعفيهم من المبيت في ضيافة الشرطة خلال الأمسيات الباردة.
لا يزال الطالب اليساري يحلم بإسقاط الفاسدين، رغم أن هؤلاء أسقطوا كل شيء، وبقوا منتصبين وحدهم وينظّرون في السياسة والاقتصاد العالمي وتأثر الأسعار الداخلية بسعر النفط، رغم أن مستواهم الدراسي لا يؤهلهم للحديث حتى عن مكونات حشوة البسطيلة.
نفس الرجال الذين يريدون لأبنائهم أن يكبروا في خط مستقيم، لا يزالون يحلمون بيوم يقنعهم فيه أبناؤهم بالإقلاع عن التدخين والقطع مع «البيرة» الرخيصة ومكافأتهم بإرسالهم لحج بيت الله الحرام. وعند العودة منه، لن يمانعوا بإرسالهم أيضا إلى كل الأولياء والصالحين المشهود لهم بالبركة، حتى يضعوا القطع النقدية في أواني الفخار، ويوزعوا الشمع على رواد الأضرحة، علّهم يبصرون بواسطتها بعض الضوء وسط ظلام الحياة..
جوقة «العميين» الحقيقيين، هم هؤلاء الذين يستيقظون كل صباح ليواجهوا الحياة بصفر درهم، كالطيور تماما. لولا العناية الإلهية لماتوا جوعا، ولن يكون في جيوبهم إلا الوعود التي تفرق على المغاربة لأجيال. العميان الحقيقيون هم كل أولئك الذي يغضون الطرف عن غلاء فاتورة الكهرباء ويؤدون قيمتها بضمير مرتاح، وكل همهم معانقة الوسادة ليلا.
العميان، أيضا، هم هؤلاء الذين يمرون كل يوم أمام باعة السمك، ويتصنعون أنهم منشغلون بمراقبة أشياء أخرى، حتى لا تلتقي أعينهم بأعين السمك، ويحسوا بالحكرة أمام عجزهم عن اقتناء كيلوغرام واحد من السمك الفاخر، الذي يسبح بكل وقاحة في واجهتين بحريتين طولهما يعادل طول المرارة المطوية بعناية في صدور فقراء هذا الوطن.
العميان ببساطة هم هؤلاء الذين يجرون كل يوم خلف سيارات المرشحين والرعاة الرسميين لحملاتهم الانتخابية، ممن يتلقون وعودا بتوظيفهم وتوظيف أبنائهم إن فاز مرشحهم في الانتخابات الجماعية.
.. الأعمى الحقيقي الوحيد هو الذي لا بصيرة له. ومشكلة المغاربة تتحدد في هذه «البصيرة» بالضبط. البرامج الانتخابية تفتقر إلى بصيرة حقيقية، ومضامينها لا تختلف في شيء عن قراءة الطالع.. ولو أن المرشحين اكتفوا بنصب الخيام كعرّافات جامع الفنا بمراكش، لكان خيرا لهم. سيكون جميلا أن يأتي المواطن ويبسط كفه أمام المرشح، ويقرأ له الطالع بناء على خريطة جلده عندما يقبض يده. سيشيد له المدارس تحت السبابة، ويبسط له القناطر والطرقات في راحة الكف، ويوزع المؤونة على أصابعه الجائعة، ويسجل أظافره في التغطية الصحية، ويصرف التقاعد المريح لإبهامه، ما دام الأخير قد اختار الابتعاد عن جوقة الأصابع وتأمل المنظر من أعلى..
نحن اليوم، نعيش سهرة صاخبة يحييها جوق من المرشحين «العميين»، يرون كل شيء من خلف نظارات شمسية مزورة، ويتصنعون أنهم يتحسسون طريقهم نحو المستقبل، في حين أنهم يتأملون عورة المواطنين وفقرهم..
لو أن ليلة الإعفاءات التي باشرتها وزارة الداخلية تزامنت مع ليلة القدر، لكان الأجر مضاعفا، ولأعفي في ليلة واحدة ما يمكن إعفاؤه في دهر كامل، وليس سنة واحدة فقط.