سهيلة التاور
على مر السنوات الأخيرة، يحاول العلماء الوصول إلى تركيبة مختبرية مشابهة للحوم الحقيقية من الأصل الحيواني، إلا أن غالبية المحاولات لم تعط نتائج جيدة. لكن مؤخرا تم صنع لحوم صناعية مستنبتة في المختبر بكل دقة من خلايا جذعية للحوم ماشية حية وأصبحت سنغافورة أول بلد يجيز أكل هذا النوع من اللحوم.
شاع مؤخرا مصطلح اللحوم المستنبتة في المختبر والتي تعرف أيضا باسم اللحم النظيف و الصناعي، وهي لحوم يمكن الحصول عليها عن طريق أخذ خلايا جذعية من لحوم ماشية حية، وتوضع في مفاعل حيوي خاص حيث تُغذى بالجلوكوز والأحماض الأمينية والفيتامينات والمعادن، ويسمح هذا المزيج من الخلايا والعناصر الغذائية في ظروف خاصة وبيئة معقمة بتطوير الخلايا الجذعية إلى خلايا عضلية ناضجة تصير في ما بعد اللحم المستزرع على مدار أسابيع. وهو شكل من أشكال الزراعة الخلوية التي تستخدم مزيجاً من التكنولوجيا الحيوية وهندسة الأنسجة والبيولوجيا الجزيئية و التركيبية.
محاولات علمية متعددة
بدأت المحاولات لإنتاج اللحوم المصنعة منذ عام 1998، حيث تمكن العالم الأمريكي جون إف فين من إنتاج اللحوم المصنعة من الأنسجة للاستهلاك البشري، عن طريق زرع الخلايا العضلية والدهنية بطريقة متكاملة لإنتاج منتجات غذائية مثل لحوم الأبقار والدواجن والأسماك، وحصل على براءة الاختراع في ذلك.
وفي عام 2001 قام طبيب الأمراض الجلدية فيست ويسترهوف، والطبيب ويليم فان إيلين، ورجل الأعمال ويليم فان كوتن، الهولنديين، بالتقديم للحصول على براءة اختراع حول عملية إنتاج اللحوم المصنعة التي قاموا بها، وفي العام ذاته بدأت وكالة «ناسا» الفضائية بتجاربها في تصنيع اللحوم من خلايا الديك الرومي.
تمكن الاتحاد العالمي لبحوث الأحياء في عام 2002، من زراعة منتج يشبه فيليه السمك من خلايا سمكة ذهبية، وبعدها بعام قام الباحثون في كلية هارفارد الطبية، بتصنيع شريحة صغيرة تشبه شريحة اللحم، تم تصنيعها من الخلايا الجذعية للضفادع.
وفي عام 2013، حدثت نقلة نوعية، عقب النجاح الذي حققه فريق من العلماء الهولنديين بقيادة مارك بوست، أستاذ فسيولوجيا الأوعية الدموية في جامعة ماستريخت، من إنتاج أول قطعة «برجر» من لحم البقر الذي قاموا بتصنيعه في المختبر، وقام خبراء ومتذوقون بتذوقها، ونالت استحسانهم من ناحية المذاق المشابه بدرجة كبيرة مع اللحم الطبيعي.
وقد بلغت تكلفة إنتاج هذه القطعة من «البرغر» أكثر من 300 ألف دولار أمريكي، واستهلكت عملية إنتاجها أكثر من عامين، من خلال إنتاج أنسجة صغيرة جداً من عضلات لحوم البقر في قارورة زراعة الأنسجة، وتكرار هذا العمل عدة آلاف من المرات.
وأكمل الباحثون الهولنديون أبحاثهم لمحاولة تطوير طرق إنتاج اللحوم المصنعة، ليصبح المنتج مطروحاً في الأسواق خلال السنوات القادمة، وبتكلفة أقل، فأسسوا شركة «MosaMeat» المتخصصة في تكنولوجيا الأغذية.
وبعد هذا التقدم الثوري الذي توصلت إليه الشركة الهولندية، دخلت شركات أخرى منافسة في مجال تصنيع اللحوم المخبرية، أبرزها شركة «لحوم ممفيس» في الولايات المتحدة و«سوبرميت» في «إسرائيل»، وقد نجحت الشركة الأمريكية في إنتاج أكثر من قطعة من اللحم «كرة من اللحم» تقل عن نصف كيلوغرام، بتكلفة تبلغ 18 ألف دولار أمريكي في عام 2016.
تقنية جديدة من اليابان
تمكن فريق بحثي ياباني من تطوير طريقة لاستزراع اللحوم في المختبر في شكل نسيج عضلي للحم البقر يحاكي قطع «الأستيك» سواء من حيث الحبيبات أو الملمس. ووضح شوجي تاكيوتشي –الباحث في قسم المعلوماتية الميكانيكية بكلية الدراسات العليا لعلوم وتكنولوجيا المعلومات في جامعة طوكيو، والمشارك في الدراسة- أن فريقه البحثي طور تقنيةً لإنتاج أنسجة عضلية بحجم ملليمتر، بألياف عضلية مستخرجة من اللحم البقري.
وقال «تاكيوتشي»: النسيج الذي تم تصنيعه حيويا في المختبر تم استزراعه بدرجة عالية في اتجاه واحد كي يحاكي تمامًا شرائح اللحم، مضيفًا أنهم نجحوا في إنتاج أنسجة مماثلة للنسيج الحقيقي، ومن خلال زراعة الأنسجة لمدة أسبوعين، حصلوا على صلابة مماثلة لتلك الموجودة في اللحوم التجارية.
وأضاف: معظم الجهود العلمية السابقة استخدمت هندسة أنسجة اللحوم المستزرعة لإنتاج لحوم مفرومة غير متبلورة تفتقر إلى حبيبات اللحوم الحيوانية وملمسها، لكننا نجحنا في إنتاج قطع من اللحم بحجم ملليمتر تحاكي ملمس اللحم الحيواني، إذ تساعد محاذاة الأنابيب العضلية على تقليد نسيج شرائح اللحم ومذاقها.
ولخص «تاكيوتشي» تلك العملية قائلًا: أنشأنا هيكل عمود صغيرًا باستخدام الطابعة ثلاثية الأبعاد، إذ يتم تكديس صفائح من الأنسجة العضلية على طول الأعمدة، وتندمج الصفائح المكدسة بعضها مع بعض في النهاية، مما يؤدي إلى تكوين أنسجة عضلية بسُمك ملليمتر.
وأوضح: كانت هناك ميزة مهمة اتسم بها اللحم الجديد، وهي أن المحتوى الميكروبي لأنسجة عضلات الأبقار المزروعة (وقت البحث) كانت أقل من حد الكشف عنها، مما يشير إلى أنها كانت على درجة عالية من التعقيم، على عكس اللحوم التجارية الموجودة في الأسواق.
سنغافورة الأولى في العالم
أصبحت سنغافورة أول دولة في العالم تجيز بيع الدجاج غير المذبوح والمصنع في المختبر. وحصل منتج «لقيمات الدجاج» chicken bites الذي تنتجه شركة تصنيع الأغذية الناشئة «إيت جست» Eat Just ومقرها كاليفورنيا، على موافقة الهيئة التنظيمية في وكالة الأمن الغذائي في سنغافورة، في بادرة تُعتبر بداية لمستقبل من الممكن فيه إنتاج كافة اللحوم من دون قتل الحيوانات. ويُصنع هذا المنتج من الخلايا الحيوانية وسوف يطرح في البلاد تحت العلامة التجارية «غود ميت» Good Meat. ولم يتضح بعد متى سيقدم للزبائن، في المطاعم بداية.
وقال الرئيس التنفيذي للشركة جوش تيترك، إن تكلفة هذه اللحوم قد تكون مشابهة لسعر الدجاج الفاخر بدايةً، إنما يتوقع أن ينخفض سعرها مع زيادة حجم الإنتاج. وأضاف أن الشركة تتواصل أيضاً مع الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة، ولكن سنغافورة متقدمة «بشوط كبير» عن الولايات المتحدة في هذا المجال. وأضاف «أتوقع أن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وغيرها سوف ترى ما استطاعت سنغافورة إنجازه، وصلابة الإطار العملي الذي وضعته. وأتخيل أنها ستستخدمه نموذجاً تنطلق منه لوضع إطارها العملي الخاص».
واحتلت شبه جزيرة سنغافورة موقعاً رائداً بين بقية البلدان في مجال ثورة استنبات اللحوم. وحالياً، تحظى الشركة الناشئة «شيوك ميتس» Shiok Meats التي تتخذ من سنغافورة مقراً لها وتأمل بأن تكون أول شركة تبيع القريدس المصنع في المختبر، بدعم من هنري سويسانتو من شركة «موند نيسين كورب» Monde Nissin Corp الفيليبينية التي تمتلك منتج «كورن»Quorn كذلك (وهو شبيه اللحوم ويسوق عالميا).
ويسعى البلد إلى زيادة إنتاج المواد الغذائية من 10 إلى 30 في المائة بحلول عام 2030، على أمل تخفيف اعتماده على الاستيراد من أجل إطعام سكانه البالغ عددهم 5.6 ملايين نسمة.
مميزات اللحوم المخبرية
زاد الاستهلاك العالمي للحوم اليوم، حوالي خمسة أضعاف بالمقارنة مع الاستهلاك العالمي في عام 1950، حيث زاد من 45 مليون طن من اللحوم المستهلكة في عام 1950 إلى ما يقرب من 300 مليون طن اليوم، وفي حال عدم وجود حلول عملية، قد يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2050. وفي ضوء هذه المشاكل، عمل العلماء منذ بداية القرن الحالي، على محاولة إنتاج «لحوم مخبرية» لتدخل ضمن المنظومة الغذائية، بهدف التخفيف من الأزمة الغذائية التي سيعرفها العالم في المستقبل.
كما أن لهذه اللحوم فوائد لصحة الإنسان، وهي القدرة على إزالة أو تقليل الدهون المشبعة، وذلك لأن الخلايا الجذعية تستطيع صنع الأحماض الدهنية أهمها «أوميجا 3». أما بالنسبة لكميات البروتين والدهون والفيتامينات الموجودة في لحوم الثروة الحيوانية التي يحتاجها جسم الإنسان، فلا يمكن أن تتوفر في اللحوم المخبرية بنسبة 10 في المائة منها، علاوة على أن حمض الأمينو أسيد الذي يدخل في عملية تصنيع اللحوم المخبرية، هو من المكملات الغذائية التي تضر بالإنسان، بل ومن الممكن أن تقتله في حال استخدامه الخاطئ.
فوائد للبيئة
ميزات اللحوم البديلة تتعدى صحة البشر بالحفاظ على البيئة الحيوانية من خلال تقليل الاعتماد على اللحوم الحيوانية التي تشهد تناقصاً ملحوظاً، كما أن تخفيض الاعتماد على المزارع الحيوانية يقلل من إصابة العاملين والمزارعين بالأمراض المترتبة على الاحتكاك المباشر بالحيوان والطيور، إضافة إلى التلوث الذي تحدثه مصانع المزارع في صحة المجتمعات المحيطة بها، كما أن عمليات تغذية الحيوانات تؤدي إلى معاناتهم وتلويث المياه من النترات الناتجة عن مخلفات الحيوانات، وتعد اللحوم التقليدية والزراعة من أكبر المصادر التي تتسبب في انبعاثات عالية للغازات الدفيئة، ووفقاً لدراسات علمية، تؤكد أن اللحم البقري هو الأسوأ تلويثاً للبيئة ويُصدِر ما يزيد على 105 كيلوغرامات من انبعاثات الغازات الدفيئة لكل 100 غرام من البروتين.
وتؤكد دراسة سابقة أن اللحوم المخبرية، التي يُطلِق عليها مؤيدوها «اللحوم النظيفة»، تنتج انبعاثات من الغازات الدفيئة أقل من اللحوم التقليدية بنسبة بين 78 و96 في المائة، وتستهلك أراضي أقل بنسبة 99 في المئة وماء أقل بنسبة تتراوح بين 82 في المائة و92 في المائة، وخلُص البحث الصادر عن معهد «الغذاء الجيد» في واشنطن إلى أن استزراع الخلية بحجم بيضة من الممكن أن ينتج لحماً أكثر بملايين المرات عن حظيرة الدجاج المُكدسة بـ20 ألف دجاجة. وكذلك فإن تكاليف الطاقة أقل كثيراً ولا تُهدر أي أجزاء من الحيوانات، كما يفترض أن تكون اللحوم المصنعة في المعمل لا تحتوي على هرمونات نمو وهي الممنوعة في الاتحاد الأوروبي.
وتقول الدكتورة أليس رئيسة الفريق البحثي بجامعة «باث» البريطانية، إن الفائدة الأكبر من تناول اللحم المصنع مخبرياً تكمن في معالجة الحاجة العالمية والتحديات العالمية للأمن الغذائي والتصدي للتغير المناخي.
وتؤيد منظمات تروج لبدائل البروتين أن استزراع اللحم في بيئة مشابهة لصناعة الجعة والزبادي أكثر أمناً ونظافة، وأكثر تأثيراً من تربية الحيوانات في المزارع، وتصف المنتج النهائي من اللحم المُصنع بأنه «لحم صاف»، ولن يحتاج المنتج إلى حقن بالمضادات الحيوية، كما لن تتعرض الحيوانات للذبح أو تصيب المواشي بالأمراض البكتيرية أو السالمونيلا وغيرها من الملوثات.
تحديات في الطريق
أكبر تحد للحوم المصنعة محليًا هي قبول المستهلكين وسعر التكلفة، ففي المراحل الحالية يقول المصنعون إن تكلفة قطعة اللحم الكبيرة تساوي 50 دولارًا، وهي مقاربة لسعر اللحم العادي بنفس الوزن، لكن نجاح التجربة في سنغافورة قد لا يعني بالضرورة نجاحها في البلدان الأخرى ومنها البلدان المسلمة على سبيل المثال.
ويقول جوش تيترك مدير شركة «eat just» المتخصصة في استنبات اللحوم مختبريًا: «مجال صناعة اللحوم في المختبر يفتح مجالًا واسعًا في تصنيع الأغذية، وهو يقلل الضرر الناتج عن ذبح الحيوانات، فاللحوم التي ننتجها لها نفس طعم اللحوم العادية، لكن الأمر يعتمد فقط على ردة فعل المستهلكين، نحاول العمل على التواصل معهم بشكل شفاف لإقناعهم بالمشروع».
ومشكلة أخرى يواجهها المشروع، وهي المرافق الحيوية التي تستخدم في هذه الصناعة، يقول جريجوري زيجلر، أستاذ علوم الأغذية في جامعة ولاية بنسلفانيا: «قبل أن تصبح اللحوم أو الأسماك المستزرعة عنصرًا أساسيًا في وقت العشاء، يجب على الشركات أيضًا التغلب على تحديات الحجم. إنهم بحاجة إلى تحسين الوسائط التي تنمو فيها الخلايا وترتيب مرافق مفاعل حيوي كبير لاستنبات أحجام هائلة من الخلايا بوتيرة تتناسب مع طلب العملاء. استغرق الأمر من شركة «Wild Type» ثلاثة أسابيع ونصف لإنشاء رطل من سمك السلمون لمعرض تذوق في ولاية بورتلاند الأمريكية.
وتبقى العقبة الكبرى التي تواجهها الأغذية المصنعة، مجموعات الضغط الأمريكية المرتبطة بالثروة الحيوانية والزراعة، فهذا المجال لا ينافس تجارتهم فقط، وإنما يشكل بديلًا يجده مروجو التغييرات المناخية وحقوق الحيوان مناسبًا أكثر للاستهلاك من الحيوانات المذبوحة.