شوف تشوف

الرأيالرئيسيةتعليممجتمع

إلى حيث لا توجد «المدرسة»..

يونس جنوحي:

لماذا لا يعيد المسؤولون عن التعليم إحياء بعض المبادرات التي عرفها المغرب قبل أزيد من ستين عاما وكانت وراء صناعة جيل كامل من خيرة الأطر الذين دبروا إدارات الدولة؟

لم نعد نسمع عن المدارس الفلاحية ولا الأقسام الداخلية المعزولة التي تخرج منها أطر الاقتصاد والكفاءات التي دبرت كبريات إدارات الدولة ومؤسساتها مباشرة بعد رحيل الفرنسيين.

المُلاحظ أن أبناء القرى المنسية هم الذين تألقوا في هذا النوع من المدارس. وكانت العادة أن يُكمل هؤلاء المتفوقون دراستهم للحصول على البكالوريا في ثانوية مولاي يوسف في الرباط، قادمين إليها من قرى الأطلس وبقية المناطق النائية التي لا يجد فيها آباؤهم ما يُسكتون به جوعهم، ويواصلون مسارهم الدراسي في جامعات فرنسا ومدارسها العُليا. ويعودون في الأخير إلى المغرب لكي يشتغلوا في الإدارات الفرنسية.

حدث هذا مع الأطباء المغاربة الأوائل، وجيل الطيارين الأوائل الذين أمسكوا القواعد العسكرية وتولوا تسيير أولى المطارات المدنية المغربية بعد الاستقلال مثل مطار الرباط سلا ومطار الدار البيضاء. إذ أن المراقبين الجويين والإداريين كانوا ينحدرون من القرى المغربية، وآباؤهم فلاحون بسطاء، لكن أبناءهم رسموا مسارهم بأنفسهم وتفوقوا على الفرنسيين في مرحلة الدراسة والتدريب واستحقوا مناصبهم عن جدارة.

إذا أعادت الدولة إحياء المدارس التقنية التي أطلقتها فرنسا منذ أربعينيات القرن الماضي، فإننا لن نكرر على الأقل إخراج أجيال أخرى من التائهين الذين يواصلون الدراسة الثانوية والجامعية فقط هروبا من البطالة. دون أن يكون لديهم أي طموح أكاديمي أو تقني.

هناك اليوم تلاميذ اجتازوا امتحانات البكالوريا في شعبة الآداب العصرية، دون أن يكونوا قادرين للأسف على خط جملة بسيطة خالية من الأخطاء التعبيرية واللغوية. وهذه كارثة إنسانية تعني أمرا واحدا: فشل منظومة بأكملها وهدر 12 سنة كاملة من موارد الدولة لإيصال هذا التلميذ إلى طاولة امتحان البكالوريا.

في أغلب المؤسسات التعليمية في المغرب، لا تتوفر آلات في المختبرات ولا عينات للدراسة. ولا تزال قاعات المعلوميات تتوفر على حواسيب خرجت من لوائح «ميكروسوفت» منذ عشر سنوات ومكانها الطبيعي في محلات الخردة وليس قاعات الدرس، ومع ذلك، فإن آلاف التلاميذ مُجبرون على الجلوس أمامها لاجتياز امتحان في برامج الرقن والحساب.

يحدث هذا في زمن يُتقن فيه التلاميذ التعامل مع البرامج، والذكاء الاصطناعي، أكثر من الأساتذة أنفسهم.

عندما تتأمل مسار أوائل المغاربة الذين تخرجوا من كليات الحقوق في فرنسا، تجد أن بينهم وزراء قادوا حكومات ودبروا وزارات سيادية بعد الاستقلال، ومنهم من انكب على التنظير للإصلاحات الدستورية والإدارة الترابية.

بينما الآن، يتراكم آلاف الخريجين سنويا من شعبة القانون، وينتظرون في الصف الطويل لاجتياز مباريات التعليم وأي منصب شاغر في الوظيفة العمومية. وتجد أن طالبا أنجز بحثا طموحا للحصول على شهادة الإجازة في مجال قضائي، يقبل فورا بأي منصب في الإدارة العمومية حتى لو تعلق الأمر بقسم الأرشيف في إدارة نائية.

والنتيجة أن هذا الموظف، يترك مكانه في الإدارة للأشباح، ويغادر إلى أقرب كلية للحقوق لكي يُكمل مساره الأكاديمي، ويُبقي مصالح المواطنين البسطاء معطلة في الإدارات العمومية لكي يُنجز بحث التخرج للحصول على شهادة الماستر.

وفي الأخير سوف يطالب هذا الموظف الدولة بحقه في الترقية، ويبدأ سلسلة من الإضرابات.

المشكلة ليست مع مطالب الترقية لأصحاب الشهادات، المشكلة تبدأ عندما يتراكم سنويا آلاف المراهقين المنقطعين عن الدراسة بسبب الفشل في اجتياز الامتحانات النهائية. ولو أنهم توجهوا إلى مدارس فلاحية أو تقنية أو حِرفية، لكانوا أفرادا مُنتجين، بدل أن يستندوا الجدار ويحلموا بالهجرة بعيدا، إلى أي مكان لا يُذكرهم بوجود «المدارس العمومية»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى