شوف تشوف

الرأي

إفساد النظام التمثيلي

مبنى الفكرة الديمقراطية على فرضية الإرادة الحرة للمواطنين، بما هي الشرط اللازب لتأسيس الاجتماع السياسي على قواعد التمثيل الديمقراطي.

ليس من تمثيل سياسي ديمقراطي صحيح، من وجهة نظر المقالة الديمقراطية، من دون إرادة حرة للمواطن، أي من دون اختيار حر وواع من لدنه بمحض إرادته، وبعيدا من أي تأثير فيها يَحْرِفها عن وجهة التعبير عن نفسها، عن حقها في تكوين الرأي، وفي إبدائه، وفي اختيار مَن يمثله.

التأثير على إرادته، بهذا المعنى، نيل من حريتها ومصادرة، لذلك لن ينجم منه غير إفساد التمثيل، في المطاف الأخير، وتزويره على نحو غير مباشر.

لا تَقْبَل هذه العلاقة بين التمثيل الديمقراطي السليم والإرادة الحرة للمواطنين فهما إلا بالعودة إلى مفهوم المواطن -والمواطنة- في الفكر السياسي الديمقراطي، ومكانته داخل الدولة الوطنية الحديثة، فضلا عن أدواره في إقامة صرح النظام الديمقراطي.

المواطن كائن سياسي متمتع بالحقوق المدنية والسياسية التي يرتبها له انتماؤه إلى الدولة الحديثة، والتزامه منظومةَ قوانينها وسيادتها الوطنية، بما فيه التزامه أداء واجباته تجاهها والدفاع عن تلك السيادة.

والمواطن هذا واع، بالضرورة، حقوقه حريص عليها ولا يقبل تفويتها إلا بإرادته الحرة وخياره الطوعي.

إنه كائن منقوص من غير تلك الإرادة الحرة؛ لأنها فيه الأس والجوهر، وهي – لا غيرها- ما يصنع منه مواطنا وما يحدد معنى المواطنة، بل هي، في بعض الفلسفة السياسية (فلسفة العقد الاجتماعي)، ما كان في أساس قيام الدولة؛ بحسبان هذه ابتُنِيَت على قاعدة التوافق والتعاقد بين مواطنين أحرار.

ولقد ظل النظر إلى أي تمثيل، والحكم على أي اقتراع، بأنه شرعي ونزيه أو عكس ذلك مقترنا بإعمال مبدأ الإرادة الحرة وقياس مدى احترامه، أو انتهاكه، في عملية الاقتراع التي تولد منها التمثيل موضع التقدير. وكثيرا ما أحاطت النظم الديمقراطية سلامةَ عملية الاقتراع بالضمانات القانونية التي تحميها من التّزييف. فكان من ذلك أنها سنت القوانين الخاصة بالحق في الطعن في نزاهة نتائج الانتخابات؛ لأن المس بنزاهتها يضمر انتهاكا للقوانين والحقوق واعتداء صريحا على الإرادة الحرة.

تكلفت الثقافة الديمقراطية الجمعية لدى المواطنين، في مجتمعات الغرب، بحمل هؤلاء على الدفاع عن إرادتهم الحرة في كل المنافسات الانتخابية التي كان يُنال فيها منها، إلى أن استقرت، تماما، قاعدة احترامها. ثم إن تواتر تجارب التمثيل السياسي، في كل بلد من تلك البلدان، أماط النقاب عن القوى والتيارات الأساس الأكثر شعبية والماسكة بزمام التمثيل. وهي، على الأغلب، إما تتعاقب على السلطة إن كانت متكافئة القوى، كما في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، أو يكون أحدها في السلطة وغريمه في موقع معارضة قوية. ولقد حصل أن صارت الانتخابات، في بعض بلدان الغرب، معروفة النتائج أو لا تخرج عن احتمال فوز أحد الحزبين الأكثر حظوة، فقاعدة كل منها معروفة، حتى أن الاقتراع بات أقرب ما يكون إلى التنافس للحصول على أصوات القاعدة الانتخابية المترددة، قصد صبها في رصيد هذا وذاك وحسم المنافسة لصالحه.

أما وسيلة الأحزاب السياسية – المألوفة سابقا- في اكتساب الشعبية، وتحصيل الثقة والتأييد من المواطنين فظلت، لردح من الزمن طويل، هي الإقناع: إقناع الجمهور المخاطَب بوجاهة خياراتها، وفوائد مشروعها وبرنامجها السياسي ونزاهة مرشحيها واقتدارهم إلخ. وهو إقناع تضافرت على صناعته أدوات وكفاءات عدة: الخطاب السياسي المكتوب (في الجرائد والأدبيات الداخلية المنشورة)، والمعبر عنه في وسائط الإعلام الإذاعية والتلفزية؛ كتابات أقلامها وألسنتها وتصريحاتهم؛ المناظرات والندوات المبثوثة في كل موسم انتخابي؛ الحملات الانتخابية ووسائلها من تجمعات ومهرجانات إلخ. القيادات، المثقفون، الصحفيون، النواب، الشباب واللجن التنظيمية… جميعُها قوى تنخرط في هذه العملية الضخمة التي تدور فصولها تحت عنوان الإقناع، ومن أجل إحراز نجاحٍ في تحقيقه.

اليوم، يتغير كل شيء في الصورة، تنسحب فاعلية الإقناع من المشهد، بالتدريج، لتحل محلها فاعليات أخرى تدور على تزييف الوعي، وتنميط الإدراك، وتعطيل حاسة التقدير والتمييز عند الناخب. تنهض بدور إدارة هذه العملية شبكة أخطبوطية هائلة من وسائط الإعلام والتواصل غير خاضعة للأحزاب المتنافسة نفسها، ولكنها تقرر مصيرها ومصير جمهورها المباشر المحازب! يحصل أن بعض هذه الوسائل يكون ملكا لبعض من مرشحي الرئاسة (لا لحزبه)، ولكن الغالب عليها أنها مملوكة لقوى المصالح الكبرى في المجتمع. هذا ما يفسر – مثلا- لماذا لم تعد استطلاعات الرأي في الانتخابات دقيقة، بل حتى قريبة من الصحة، في العشرين عاما الأخيرة، ولماذا باتت المفاجآت غير المتوقعة سيدة الحقائق!

لا معنى لهذا المتغير الدراماتيكي سوى أن هذه الأدوات الجديدة لصناعة الرأي العام واتجاهات الرأي – ومن ورائها القوى التي تديرها- هي التي تحولت إلى ناخب جديد يقرر مصائر التمثيل، بعد شطب المواطن من المعادلة وتزييف إرادته «الحرة» وسرقتها! ولقد يقول قائل: ولكن ماذا تغير؛ أليس المواطنون أنفسهم من يصوتون ويختارون فيصنعون التمثيل والمؤسسات بأصواتهم؟ نرد: نعم، ولكن وعيهم وإرادتهم الحرة مُصادران. إنهم، عمليا، يصوتون نيابة عن الذين يديرون لعبة التزييف وتعبيرا عن إرادة هؤلاء لا عن إرادتهم هُم. أما مَن يديرون صناعة هذه السرقة اللئيمة للإرادة الحرة، فيقفون وراء حجاب صناديق الاقتراع، ويأكلون الثوم بأفواه الناخبين!

 

نافذة:

ليس من تمثيل سياسي ديمقراطي صحيح من وجهة نظر المقالة الديمقراطية من دون إرادة حرة للمواطن أي من دون اختيار حر وواع من لدنه بمحض إرادته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى