إعـادة بناء الموروث
عبد الإله بلقزيز
ما من وسيلة لحـفظ الموروث أفْعَل من إعـادة بـنائه. تقع إعادة البناء هذه موقعا اعتباريا مميزا بين نظرتين على طرفي نقيض، لكنهما عديمتا المنفعة: بين نظرة إلى الموروث بما هو مكتمل ونهائي، وجاهز لإسعافنا بما نحتاج إليه، ونظرة إليه بما هو بضاعة فاسدة نحن في غنى عنها.
لا تعني إعادة البناء معنيين تلائمان تينك النظرتين المتقاطبتين؛ فهي لا تروم تجديد مفعول الموروث في الحاضر؛ وفي هذا تختلف عن النظرة الأولى، وهي لا تعني الهدم في الوقت عينه؛ وفي هذا تميز نفسها من النظرة الثانية.
ما من شك في أن إعادة البناء مفهوم مختلف عن مفهوم القطيعة؛ لأن إعادة البناء تلحظ علاقة من الاستمرار في الموروث التاريخي تهدره فكرة القطيعة. لكن إعادة البناء ليست تأكيدا على استمرارية تلقائية مكرورة، كما هو أمرها عند التراثيين. تشير إعادة البناء إلى لحظتين تاريخيتين ومعرفيتين مختلفتين: لحظة البناء، ولحظة إعادة بناء ما بُنِيَ على نحو جديد. وليس هذا لا من باب الاستئناف ولا من باب التجديد في شيء، بل هو إلى النقد والتصحيح والتصويب أقرب: نقدُ ما بُنيَ من أبنيةٍ معرفية موروثة، أي تحليلها وفحص نظامها، وتصحيح أو تصويب نظرتنا إليها على النحو الذي يضعها في تاريخها الخاص، ولا يخضعها لأي نوع من أنواع الاستخدام والاستغلال في الحاضر، مثلما يحرر وعينا من سلطانها المعرفي.
تبدأ إعادة بناء الموروث من نقده؛ والنقد ليس الهدم، بل هو التحليل التحتي لقواعد التفكير والمفاهيم والمنتوج المعرفي كما يفيد في معناه الكَنتي. والمدخل إلى ذلك النقد البناء على منطلقات للنظر تصلُح بها المقاربة، وأولها تاريخية الموروث المقروء. لقد أقام القدماء ما أقاموه في عصرهم، انطلاقا من حاجات موضوعية فرضتْها عليهم شروطهم التاريخية التي عاشوا فيها، ومن الإمكانات المعرفية التي أتاحتها لهم أزمنتهم، وما كان يسعهم أن يقدموا من المعارف إلا ما قدموه وما سمحت به أوضاعهم التاريخية. لذلك فإن منتوجهم قابل لأن يعاد فيه النظر النقدي، بحسبانه مشروطا بظرفية إنتاجه. وليست إعادة النظر التي نعني سوى تحليله من أجل فهمه، ابتداء، ثم من أجل بناء مسافة معه هي عينها المسافة بين تاريخين؛ تاريخه هو كموروث، وتاريخنا نحن كقراء له؛ وهي عينها المسافة بين زمنين معرفيين؛ زمنُه المعرفي الذي تولد منه كموروث، وزمننا المعرفي الذي اتسعت فيه دائرة المُتاحات الفكرية. على أن تحليله ونقده يفترضان العمل بقاعدتين:
الأولى أن يكون نقده محمولا على فهم تاريخي له. ومعنى ذلك أنه ينبغي عدم تقييم القديم بمعايير الحديث، لأن في ذلك إسقاطا غير مشروع، وإهدارا لعوامل التاريخ الموضوعية. للتراث زمنه، ومن المفترض أن يُحْكَم عليه بمعايير زمنه، بما فيها ما كان في عِداد الإمكان، أو ما كان من المتاحات، ولم يُغْتَنم. وقد يكون هامش النقد واسعا هنا؛ أي في هذه الحال التي يكون فيها مدى المُتاح المعرفي أوسع مما يبدو عليه المنتوج الفكري المحصل أو، أيضا، يكون فيها هذا المنتوج في القيمة دون الموارد المعرفية والعلمية المتاحة لحظة إنتاجه. حينها نحافظ، في هذا النوع من نقد الموروث، على تاريخية هذا الأخير من دون أن نبرره. وغني عن البيان أن نقدا للقديم لا يتسلح بهذه النظرة التاريخية مُفْضٍ بنفسه، حكما، إلى العدمية: وهذه تهدم ولا تبني معرفة، وهي الرديف لنزعة أخرى شبيهة في الفساد هي النزعة التبريرية؛ وهي، أيضا، لا تاريخية مثل الأولى.
والثانية أن يقترن هذا النقد/ التحليل بالرغبة في الفهم، أي في تكوين إدراك دقيق للمحتوى الفكري للمادة التراثية، وللعلاقات التي تصل الأفكار بمحيطها المجتمعي. ومن المؤسف أن المعرفة والفهم هما آخر ما اعتنى بأمره من اتصلوا بالتراث من الاتجاهات الفكرية المختلفة؛ فلقد انصرف أكثرهم إلى طلب أهداف أخرى من ذلك التراث غير هدف فهمه، مثل استغلاله إيديولوجيا أو خلع أردية القداسة عليه وما إلى ذلك. وقد ارتد تسييس التراث والتلاعبات Manipulations الإيديولوجية به على التراث نفسه بما هو منظومة أفكار ومعارف، فلم يعد موضوعا للمعرفة، بل صار ميدانا للمضاربات والمنازعات ورهانا يُتَزاحَم على كسبه والاستيلاء عليه، من أجل فرض رواية هذا الفريق أو ذاك عنه. وما هذه بالعلاقة التي يليق بثقافة معاصرة أن تقيمها بتراثها.
التراث العربي الإسلامي تراثنا الجمعي، شئنا ذلك أو أبيناه. لا مجال إلى إنكاره من منكر يرى فيه غضاضة ومنقصة. وهو تراثنا الذي ينتظر منا درسا وتمحيصا بروحية نقدية مدركة للفواصل التاريخية والمعرفية بين زمنه وزمننا، ولا مجال للتنكب عن هذه المهمة بدعوى صونه والحفاظ عليه. ولأنه بهذه المثابة، فلا علاقة أقوم وأصح تربطنا به سوى علاقة المعرفة: العلاقة الوحيدة التي تبرر انشدادنا إليه كموضوع، وإقبالنا على نصوصه. وعلاقة المعرفة به تفترض أن نسلم بأنه معطى تاريخي محايد إزاء عصرنا. ولكنها تفترض، في الوقت عينه، أن نفكر فيه بعقل محايد: لا ينتصر له انتصار المصاب بالعُبّيّة تجاه ماضيه، ولا ينتصر ضده لصالح ما يعده النموذج والمثال… والمآل.
نافذة:
تبدأ إعادة بناء الموروث من نقده والنقد ليس الهدم بل هو التحليل التحتي لقواعد التفكير والمفاهيم والمنتوج المعرفي كما يفيد في معناه الكَنتي