إعصار الحداثة
بقلم: خالص جلبي
بعد انتشار خبر الاستنساخ (النعجة دوللي) في اسكتلندا، جاءتني مجموعة من الاستفسارات متعلقة بالقضية الجديدة عن الاستنساخ الجسدي، وهي تفيد بأننا لم نمتص صدمة الحداثة لننتقل من حالة الخوف والذعر إلى حالة الهجوم الفكري المضاد، فهناك بعض الإخوة ترك عندهم بحث الاستنساخ هزة فكرية تدعو إلى القلق، وهو مؤشر جيد وصحي، عن الهم الفكري ومحاولة حل الاستعصاءات الفكرية.
كان سؤالهم لا يريد المزيد من المعلومات عن التقنيات وصناعة الاستنساخ، بل كان حريصا على إدراكها في إطارها الفلسفي. وهذا يعطينا أيضا المؤشر لزوبعة الحداثة وأثرها في ضمير الإنسان المسلم. كما يعطينا المبرر لتناول هذا الموضوع الحساس والدقيق والشائك بغير الطريقة التقليدية، من أجل حقن روع الإنسان المسلم بمادة الطمأنينة ولقاح السلام.
الاتجاه (الهيرودوتي) و(الزيلوتي):
من المهم أن نؤسس لمجموعة من الأفكار ونحن ندخل عملية جراحية فكرية معقدة، وندخل في حسابنا كل عمليات البيولوجيا، فإجراء تداخل جراحي بدون تخدير يدخل المريض وضع الصدمة الجراحية، فنقتل المريض من حيث نريد إنقاذه، كما يجب أن ندرس استعداد البدن لزرع الأعضاء الفكرية الجديدة فيه، بدلا من أعضاء تعطلت عبر القرون، مثل زرع الكلية والكبد أو نقل الدم، مع الأخذ في الحسبان أن الجسم يرفض العضو الغريب، إذا زرع في غير شروطه، إلى درجة أن الجسم يفضل الموت على تقبل العضو الجديد، وهي متحارجة رهيبة.
وهذا اتجاه سماه المؤرخ البريطاني توينبي (الهيرودوتي) و(الزيلوتي). الأول يقوم بعملية استلاب ثقافية كاملة، فينسلخ عن الثقافة، ويرفض الثاني إدراك طبيعة التغير الجديد، فيصر على المضي في طريقة حياة لم يبق لها جذور وسيقان.
يتعرض الصنف الأول (الهيرودوتي) (1) لعملية تغيير كامل ومشوه للشخصية، ويولد بدون ذاكرة، كما فعل أتاتورك عندما غير حرف اللغة العثماني الذي كان رسمه عربيا، إلى الشكل اللاتيني؛ فيصف توينبي عمله بالخبث، فهو لم يذهب إلى الساحات العامة فيحرق كتب التراث والثقافة جهارا نهارا، بل جعلها تتعفن وتتآكل على الرفوف بدون لمس، فولدت الأمة التركية الحديثة بدون ذاكرة! كمن يستيقظ بعد حادث مريع ومعه فقدان كامل للذاكرة (RETROGRADE AMNESIA)(2) لا يعرف إحداثيات الزمان والمكان، بل لا يعرف ما اسمه. وهو ما حصل لصدمة الثقافة التركية في الوقت الراهن، ويمكن فهم حركة أربكان سابقا وأردوغان لاحقا في ضوء هذا التحليل التاريخي، أن الجسم التركي الحديث المريض بدأ في مغادرة العناية المشددة، وقد استعاد شيئا من وعيه وذاكرته، ولكن أطباء بيزنطة يحاولون إعطاءه العقاقير التي تطيل عنده الغيبوبة التاريخية.
والبديل الذي أراد خلقه أتاتورك هو النموذج (الهيرودوتي)، وهو جيد في جانب منه، في محاولة إقحامه المعاصرة، ولكن خطورته تشبه خطورة نقل الدم بزمرة مختلفة، فيقتل المريض بفعل الصدمة المزلزلة لكل أخلاط وأنسجة الجسم، من حيث نريد إنقاذه ودفع حيوية الحياة في مفاصله.
الخيارات والمشكلة المحيرة:
وأمام هذين الخيارين هل هناك خيار أو بديل، بحيث نؤدي اللعبة العالمية وندخل المعاصرة، ونحافظ على شخصيتنا، ولا نفقد ذاكرتنا التاريخية؟
المشكلة المعقدة والمحيرة اليوم لعقل الإنسان العربي، هي في حل هذا الإشكال، بين تاريخ كبير عظيم، ووضع حالي هزيل، فلو ولدنا أمة متواضعة بدون هذا التاريخ الطويل المفعم لكان وضعنا أرحم، ومهمتنا أسهل، وواجبنا المنتظر قصير النفس. وعملية خداع النفس غير موجودة، فالنوم والاسترخاء على ماض غني زاه لذيذ، ولكن المعاناة اليومية الشاقة، والمصائب التي تنزل على رأس الأمة بين الحين والآخر، توحي أن حالتنا هزيلة ووضعنا بئيس، ومستقبلنا خطير!
المدخل الى المأساة وحالة الصدمة الحضارية:
إذا كانت الصدمة الطبية لها أربعة ينابيع أساسية (3)، فإن الصدمة الحضارية التي نعيش فيها لها مصادر أكثر من ذلك، المريض المصدوم يقع مغشيا عليه، يُفعل به ولا يفعل، يختلج بحركات غير واعية، لونه ممتقع غير وردي، ضغطه يهوي إلى القاع، ونبضه يتسارع، كحمى مجنونة، وهو لا يؤشر على الصحة، بل صراخ القلب لنجدة الحياة. والصدمة الاجتماعية، تنقل لنا شكل مجتمع الشبح، في منظر عام من الاسترخاء واللامبالاة، والعجز عن حل المشاكل الداخلية المصيرية، الخدمات العامة شبه مشلولة، والمجتمع تقوم حركته على العلاقات الخاصة، أكثر من نبض المجتمع الأساسي، وهو مشعر لانهيار الكيان الاجتماعي؛ فبقدر تقلص العلاقات العامة إلى صالح ضخامة العلاقات الشخصية، بقدر انكماش حيوية المجتمع، ودخوله في مزيد من مركب الصدمة الحضارية.
كأن أوضاع مجتمعاتنا تشبه القطار الذي خرج عن السكة بفعل حادث تاريخي، فركابه الآن يستيقظون على الكارثة، في محاولة لإرجاع قطارهم المصاب إلى السكة كي يتابع مسيرته من جديد. مجتمعنا لم يوضع بعد على السكة التاريخية، ويبدأ المسير والمصير، ويسيطر على حل مشاكله.