يعد هذا العام من أغرب سنوات القرن. فيه يختفي الناس في بيوتهم، ويغلقون محلاتهم، ويعمهم الفزع الأكبر من موت يخيم على الرؤوس، في حرب عالمية مفتوحة، في جبهة تمتد عبر المشارق والمغارب، من مغول الصين إلى كردستان وجزيرة كمشتكا وجبل النار، يهاجم فيها عدو لا يرى بمنجل لا يقشع. إنه عام تاج الموت مرصعا (كورونا) بكائن غامض لا يرى إلا مكبرا خمسين ألف مرة أو يزيدون. لنتذكر كلمات ابن خلدون من عام 1348م حين سطر في مقدمته للطاعون الجارف الذي تحيف الأمم في منتصف القرن الثامن الهجري. يومها أكلت الأمراض بنهم ثلث سكان الأرض. نحن حاليا في أتون المعركة، ولا نعرف كم ستكون أشلاء الحطيم، وما أدراك ما الحطمة؟ هنا نقف على فهم ما خلق الله في أنفسنا والعالم من حفظ وترتيب ونظام بديع ووقاية ربانية تحفظ للجنس البشري بقاءه ومتابعة رحلته، «وفي أنفسكم أفلا تبصرون». في سلسلة عبر جريدة «الأخبار» سوف نستعرض عجائب خلق الله فينا، في محراب للطب يلهمنا الدعاء والخشوع والصبر على النوائب، وفهم عظمة خلق الله فينا، بناء وتركيبا وحفظا من كل شيء موزون. إنها رحلتي في عالم الطب محراب للإيمان.
تهدف هذا السلسلة من المقالات إلى إعادة (الصلة الطبيعية) بين العلم والإيمان، بين ما يكشفه البشر من تراكيب وسنن في هذا الوجود، وبين ما يريده الله منهم في القضية الإيمانية التي تعتبر حاجة إنسانية بالدرجة الأولى تهدف إلى (ترقية النوع) وليس لمجرد (حفظ النوع)، وهذا هو البعد الجديد في الإنسان الذي ميز الإنسان عن بقية الخلائق.
إن القرآن كتاب الله (المقروء) والكون كتاب الله (المنظور) والنسخة الأصلية لكلمة الله، وبنية الإنسان من هذا القطاع، وكلا الكتابين من الله، وكل منهما يدل على الآخر ويتممه، ولذا فإن المزيد من معرفة الوجود ـ ومنه الطبي ـ تعني المزيد من معرفة الخالق جل جلاله، حيث إن الكون يقوم بوظيفتين (دليل على الله)، و(مسخر للإنسان) ولكن بالقوة لا بالفعل، ويتدخل جهد الإنسان بين نقله من القوة إلى الفعل.
ويقف الإنسان خاشعا وهو يرى الإعجاز تحت المجهر في البناء الخلوي، أو عندما يغوص مع الأخلاط والتفاعلات المخيفة في أعماق الخلية والأنسجة، أو عندما يطارد عنصرا مشعا من أجل اكتشاف تفاعل أو معرفة تركيب، أو تقدير حياة خلية، أو آلية تأثير هورمون أو إنزيم (خميرة Enzyme). يخشع الإنسان وهو يرى تحت المجهر العادي فضلا عن المجهر الإلكتروني الذي يكبر عشرات الآلاف من المرات، هذه الهندسة الرائعة في الخلايا، والارتباطات المحكمة، والآليات المتناسقة المتوازنة، وهذا الجمال في كافة مستوياته.
وكلما ازداد عمق البحث ازدادت الأشياء التي تكشف وازداد تعليق العلاقات، والتفاعلات، وآليات الاتزان، التي كانت تظن في ما سبق بسيطة.
إن مزيدا من العلم هو مزيد من شحنة الإيمان، حيث ينقلب الوجود كله إلى (محراب) لمعرفة الله وعبادته، لا كما فعل عبيده اليوم، حيث حولوه إلى مرقص وحانة ومستودع للذخائر النووية، إذ ما زالوا على ظن الملائكة فيهم ولم يحققوا بعد (علم) الله فيهم.
«قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون…» (البقرة ـ 30).
يجب أن نؤكد على أن تقدم العلم لن ينقض الإيمان، بل سوف يزيد من تعميقه، والإصرار على الحاجة إليه كقضية ملحة لا يمكن الاستغناء عنها، لذا يجب أن لا نخاف من زيادة العلم، بل يجب أن نفرح به ونتبناه ونعض عليه بالنواجذ.
«وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم» (الحج ـ 54).
يجب أن نعلم أن العلم سوف يخدم القضية الإيمانية أكثر من حماسنا، كما يجب أن نعلم أن المفاهيم التي تفقد الأرضية العلمية سوف تنطفئ مهما نفخ فيها من نار الحماس، سنة الله في خلقه.
لا صدفة ولا عبث في خلق الإنسان، هذا يتقرر تماما لمن يدرس وليس لمن يقرأ (للتسلية)، والفرق كبير بين الدراسة الواعية الجاهدة، وبين القراءة السطحية المتثائبة. يتبين للدارس أن (السنة) تسود التفاعل والتركيب مهما دق أو عظم في بناء الإنسان، وعندما يعاشر العقل هذا الوسط ويعيش معه ينقلب العقل إلى عقل سنني علمي، وهكذا تتحول المعرفة من معرفة عامية إلى معرفة علمية سننية، ويبدأ في التعامل مع الوجود تعاملا جديدا، لأن (السلوك) انبثاق وإفراز تال (للمعرفة). ولكن كيف يبدأ العقل في إدراك السنة أو القانون عندما يغوص مع أسرار الخلق الإنساني؟ السنة تسيطر على الوجود، تحكم ارتباط علاقاته، وهي الشيء الذي يتكرر دوما بتحقق شروطه الأولية، وهيمنة السنة تتجلى في كافة قطاعات الوجود، فهي تهيمن:
1ـ على المستوى المادي الطبيعي:
بدءا من الذرة، ومرورا بعالم المجموعات الشمسية والشهب والنيازك وانتهاء بعالم المجرات والسدم، يسيطر القانون أو السنة كتركيب وكحركة مثل قانون نيوتن في الجاذبية، أو قانون أينشتاين في تمدد الكون…
2ـ في العالم العضوي البيولوجي:
بدءا من أبسط التراكيب العضوية مثل النشادر، حتى أعقد التراكيب العضوية مثل سلاسل الأحماض الأمينية الضخمة التي تشكل الخضاب (أربع سلاسل من الأحماض الأمينية يشكلها 574 حمضا أمينيا)، ومثل هورمون النمو، والأنسولين الذي يتكون من سلسلتين من الأحماض الأمينية بينهما جسور كبريتية مضاعفة، ومثل حمض «D.N.A» الذي يشترك في تكوين نواة الخلية الحية.
3ـ على مستوى الكائنات الحية:
بدءا من وحيدات الخلية، ومرورا بعديدات الخلايا، وانتهاء بالتراكيب الصعبة التي تشكل الأعضاء والأجهزة.
4ـ في العالم النفسي:
وعندما ننعرج إلى العالم النفسي نواجه السنة أيضا وهي تحكم أبسط الانفعالات النفسية، ومرورا بالآليات النفسية المختلفة (التعويض، التبرير، النكوص)، وانتهاء بالوظائف العقلية الراقية (التفكير، التذكر) حيث يعجز العقل عن إدراك كيف يدرك، ويعجز عن فهم كيف يفهم، وحيث تعتبر الذاكرة قضية مخيفة التعقيد لا يزال العلم عاجزا عن فهمها حتى الآن…
5ـ في المستوى الاجتماعي:
وعندما نغير نوعية المستوى وندخل الحياة الاجتماعية نرى أن له قوانينه الخاصة، مع إضافة ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
عندما يعجز العلم عن تفسير بعض الظواهر النفسية أو الاجتماعية التاريخية فيجب أن لا نشعر بالزهو لأنه وقف هنا، فالإيمان لا يثبت بتعجيز أو تجميد العلم، أو حيرته أمام بعض الظواهر، بل يجب أن نستشعر أن العلم لا يمكن أن يخون الإيمان وما ينبغي له، ولا نأمل في المستقبل إلا أن يزيد عمق القضية الإيمانية.
«ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد» (سبأ ـ 6)، بل يفتح القرآن باب التحدي والتفاؤل للمستقبل، «ولتعلمن نبأه بعد حين» (ص ـ 88).
الملاحظة الثانية:
السنن لها سمتا العمومية والنوعية.
أـ العمومية:
هناك من السنن ما يسود قطاعات الوجود كلها كما هو الحال في العلاقات التسخيرية (الجدلية)، والحركة، والتغير، أو ما يسود أكثر من قطاع واحد، باختلاف هذه القطاعات المعينة.
ب ـ النوعية:
هناك من القوانين ما يسيطر في قطاعه فقط، ولا يتعدى هذا القطاع في مثل علاقة الحرارة بطول المعدن كعلاقة طردية، أو علاقة الضغط بالحجم كعلاقة عكسية، أو كما في قانون الكيمياء العضوية، حيث تشترك خمسة عناصر في إنتاج ما يزيد على نصف مليون مركب عضوي، أو كما في الاختصاصات الخلوية في جسم الإنسان، أو في نوعية القوانين النفسية كما في الانفعالات والمشاعر والغرائز وتوليد الأفكار، أو في نوعية النظم الاجتماعية كقوانين تخلق أو تموت أي نظام، لأنها قوانين نوعية تعبر عن ثقافة معينة.
الملاحظة الثالثة:
القانون هو قانون لا أكثر في أي مستوى كان، فاكتشاف قانون علمي يبقى في حاجة إلى التفسير العقلي ولا يعني كفرا أو إيمانا من وجهة النظر الموضوعية، ولكنه يبقى ناقصا في حاجة إلى تفسير تحت إلحاح العقل ومطالبته، عند ذلك تفسر هذه القوانين بما يعطيها طابع (التكامل والغائية) وهي الإجابة عن سؤال لماذا، بعد أن أجاب العلم التجريبي عن كيف؟
فاكتشاف القوانين الاقتصادية أو الاجتماعية لا يعني الإلحاد كما يفعل بعض الذين يبحثون في هذا المجال، حيث يتحكمون بشكل مذهبي في بعض القضايا العلمية عندما تخالف مذهبهم، كما فعل شلوفسكي عندما أراد تفسير وجود الكون ووجد أن الفيزياء الكونية لا تتماشى مع الماركسية في خلق الكون، أو ما حصل مع أفيلوف العالم الوراثي، حينما رأى علم الوراثة يصطدم مع الماركسية، ولما أعلن رأيه عزله ستالين.
جاء في كتاب «الإيديولوجية الانقلابية» عن الماركسية والبيولوجيا (علم الوراثة) ما يلي:
«لهذا رأى العهد الستاليني ضرورة التخلص من العالم أفيلوف ذي الشهرة العالمية واستبداله
بـ(ليزانكو)، سعيا وراء تأكيد مبدأ نقل الخصائص المكتسبة عن طريق الوراثة، لأن المنطق الإيديولوجي الشيوعي رأى أن المفهوم الماركسي الذي يبشر بإنسان جديد، عن طريق التطور الاقتصادي، يتحطم عند ذاك المبدأ…
إن هذا الموقف لا يعني أنه كان مصطنعا من قبل الذين يشرفون على الحزب والإيديولوجية ومن ضمنهم ستالين، فهؤلاء آمنوا دون شك بكثير إن لم يكن بكل الاتهامات الموجهة لعلم الوراثة وأتباعه، فهم رجال إيديولوجية وليسوا رجالا ذوي خبرة علمية، فأخذوا من النظريات العلمية ما يتناسب مع إيديولوجيتهم على الرغم من أن النظرية القائلة بوراثة الخصائص المكتسبة وراثيا كانت قد أفلست في حياة إنجلز نفسه. كان هذا الموقف في الواقع حلقة أخرى من جهد متواصل في تدجين العلماء، وتوجيه العلوم الطبيعية تبعا للموقف الإيديولوجي». لهـذا يجب أن نفرق ما بين الصواب والكفر، كما يجب أن نفرق ما بين الخطأ والإيمان، لأن الصواب والخطأ ميزتان للعقل الإنساني في تفسير المشاكل، لأن المشكلة دوما تكمن ليس في داخلها وإنما في خارجها، لا تكمن في تعقيدها، وإنما في (موقف الإنسان منها، كما يقف ثلاثة طلاب أمام مسألة حسابية، اثنان كسولان والثالث مجتهد يستخدم عقله، فأما الأول فيشتم الأستاذ لأنه صعّب المسألة، وأما الثاني فيقول إن تركيب المسألة خطأ، وأما الثالث فلا يعطي حكمه إلا بعد أن يستنفد جهده، حيث يشعر أن المشكلة ليست صعبة، أو تركيبها خطأ، وإنما الخطأ يكمن في عدم استخدام عقله.
وأما الإيمان والكفر فأمران آخران وإن كانا لا ينفصلان عن العلم، لذا وجب أن نفتح عقولنا ولا نتشنج في ما يقوله الآخرون. وبكلمة أخرى يجب أن نتعامل مع الأفكار كقيمة ذاتية بدون إضفاءات أو ظلال أخرى غير الحقيقة الموضوعية، وخاصة في ما يتعلق بالأشخاص فما صدر ممن نحب أكبرناه، وما صدر ممن نبغض وضعنا عليه إشارات الاستفهام، إن هذه الطريقة من التعامل تدل على عدم النضج العقلي، أو ما يسمى في الطب بـ(القزامة)، لأن القزامة في الطب هي عدم اكتمال نمو الجسم، حيث يقف البدن في إحدى مراحل نموه كذلك الحال بالنسبة إلى العمر النفسي، إذ يقف الإنسان في إحدى مراحل النمو النفسي فلا يتجاوزها. وعندما لا ينمو الفرد والمجتمع نموا سليما فإن الأمة لا تصل في النهاية إلى مرحلة التعامل مع الأفكار كقيمة ذاتية، من هنا نفهم لماذا يتفاهم عاقلان ولو كانا مختلفي المذهب، بينما يختلف جاهلان من المذهب نفسه، كما في إنسان العالم الثالث أو حتى أبناء الملة الواحدة كما في الفرق الإسلامية المتنازعة، والتي لا تعرف حتى الآن فتح باب الحوار بين بعضها البعض. إنه من الأهمية بمكان أن نقرر أن مستقبل العالم الإسلامي مقرر في المرحلة القادمة بدرجة كبيرة، على فتح باب الحوار بين المعنيين بشؤون الإسلام.
وهكذا رأينا أن السنة تسود قطاع الحياة الاجتماعية، بدءا من أبسط العلاقات الحقوقية بين البشر، حيث تنبثق الأخلاق، لأن الأخلاق هي معادلة الحقوق والواجبات، ومرورا بتشكيل الأنظمة والكيانات التي تحدث التحركات الاجتماعية التاريخية، وانتهاء ببناء الحضارات التي تسم أمة ما بثقافة معينة، حيث نرى الحضارة ككائن له سماته ووظيفته، وهذا معنى الأمة.
نؤكد على أن تقدم العلم لن ينقض الإيمان، بل سوف يزيد من تعميقه، والإصرار على الحاجة إليه كقضية ملحة لا يمكن الاستغناء عنها. لذا يجب أن لا نخاف من زيادة العلم، بل يجب أن نفرح به ونتبناه ونعض عليه بالنواجذ