شوف تشوف

الرأي

إدارة الأزمة.. وختامها فوز للألمان

مالك التريكي
العقدة الأوربية تجاه ألمانيا قديمة. ليس فقط في أمور الجد، أي الإدارة والاقتصاد والعلوم، بل وحتى في أمور اللعب، أي المنافسات الرياضية التي تنفق عليها البشرية المعاصرة (إلا إذا منعها مانع استثنائي من حرب أو وباء) من المال والوقت كنوزا ودهورا ولا تبالي. وقد استحكمت العقدة حتى لم يجد الإنجليز بدا من معالجتها بما يحسنون، أي روح النكتة، فقالوا متندرين: كرة القدم لعبة سهلة. 22 رجلا يتراكضون لساعة ونصف الساعة خلف كرة. أما ختامها ففوز دائم للألمان!
ولأن الفرنسيين عزل من سلاح النكتة هذا، فقد أناخت عليهم هيبة الجيران: اعتادوا قياس أدائهم في كل مجال بأداء الألمان، واعتادوا أن تكون المقارنة غالبا في غير صالحهم. حالة من عدم التكافؤ لم تفعل الأزمة العالمية الحالية سوى تجديد الأدلة على ثباتها. فقد كان الانتباه الفرنسي حادا لما أعلن وزير الصحة الألماني أن الوضع في بلاده بات قابلا للتحكم والاحتواء. ذلك أن المقارنة تظهر أن عدد الضحايا في ألمانيا يقل عن ربع العدد في فرنسا، رغم أن الميزانية المخصصة للصحة في البلدين متساوية، ورغم أن تعداد السكان في ألمانيا 83 مليون نسمة، بينما لا يتجاوز في فرنسا 65 مليونا. والنتيجة أن الانكماش الاقتصادي الناجم عن الوباء سينحصر هذا العام في حدود 4 فاصل 2 بالمائة في ألمانيا، بينما سيبلغ 8 في المائة في فرنسا.
ويعزى هذا التفوق الألماني لحسن استعداد القطاع الصحي؛ ومرونة النظام الإداري (في مقابل شدة المركزية وثقل البيروقراطية في فرنسا)، حيث إن لامركزية الحكم تمنح الولايات والمؤسسات القدرة على سرعة التكيف والاستجابة؛ والتبكير بتكثيف عمليات الكشف والفحص، ثم عزل المصابين منعا للعدوى (وهو ما لا تزال فرنسا وبريطانيا مقصرتين فيه بالغ التقصير)؛ وتوفر أسرة إنعاش في المستشفيات يبلغ ضعف العدد المتوفر في فرنسا. هذا إضافة إلى براغماتية مواقف أنجيلا ميركل وهدوء خطابها في التواصل مع مواطنيها، حيث انتهجت الأسلوب التقريري والتفسيري المبسط، بينما نحا ماكرون المنحى البلاغي وسارع إلى استحضار المعجم الملحمي.
ومن أمثلة ذلك أنه أعلن «أننا في حرب»، بينما قال الرئيس الألماني فرانك- فالتر ستاينماير: «كلا، ليست هذه الجائحة بحرب. إذ لا نشهد مواجهة بين أمم أو جنود، وإنما هذا امتحان لإنسانيتنا». كما أن ماكرون يفضل الظهور على التلفزيون في ساعة الذروة لإلقاء خطاب لا علم لوزرائه بكثير من فحواه، بينما تفضل ميركل عقد مؤتمر صحافي، بعد أربع ساعات كاملة من المشاورات مع حكام المقاطعات الفدرالية.
وقد يبدو أن هذا التباين في أسلوب التواصل والخطاب مسألة ظرفية غير ذات أثر فعلي في تفاوت الأداء بين البلدين في إدارة الأزمة. إلا أن الاقتصادي الفرنسي نيكولا بوزو، الذي أصدر أخيرا مع الفيلسوف لوك فري كتابا متميزا بعنوان «حكمة العالم القادم وجنونه»، يضع المسألة في نصابها قائلا إن من أسباب التفاوت أن النخبة السياسية والاقتصادية في فرنسا ذات تكوين أدبي، بينما يغلب على نظيرتها في ألمانيا (وفي الصين أيضا) التكوين العلمي والولع بالتكنولوجيا.
وهذا صحيح. فبينما عرف عن ماكرون اهتمامه بالفلسفة، وعن رئيس الوزراء إدوارد فيليب، ووزير الاقتصاد برونو لومار حبهما للأدب (مثلهما في ذلك مثل أجيال متعاقبة من الساسة الفرنسيين)، فإن ميركل حاصلة على الدكتوراه في الفيزياء. وتظهر استطلاعات الرأي أن علو مصداقيتها لدى الألمان (بنسبة ثقة تبلغ 79 بالمائة) لا يتأتى من حسن تدبيرها لشؤون الحكم فحسب، بل ومن جدارتها أيضا في المجال العلمي. ويرتبط هذا بعامل بنيوي أهم، هو أن ألمانيا تحترم البحث العلمي وتخصص له سنويا ميزانيات تتجاوز بكثير ما تخصصه فرنسا أو بريطانيا.
ومن أبلغ القصص في هذا الشأن أن سيدة بريطانية وجهت إلى «الغارديان» رسالة تذكر فيها بأن حكومة جونسون قد افتضح أمرها، لفرط تخبطها في مواجهة الوباء، وتقاعسها عن اتخاذ اللازم لتجهيز الطواقم الطبية بالكمامات والملابس الواقية، ناهيك عن المسارعة بإجراء الفحوص للعموم، ولكن المفاجأة أنها قالت بعد ذلك مباشرة: لست خائفة (!) لأني أعرف أن في المستشفيات كثيرا من الأسرة، وإنني سأتلقى فحصا إذا لاقيت صعوبة في التنفس. فقد حصل زوجي على الفحص في اليوم ذاته، بمجرد اتصال هاتفي مع الطبيب العام. كما أعرف أن لدى الطواقم الطبية كل الأجهزة اللازمة. ففيم هذا الاطمئنان الغريب؟ السبب أن السيدة الآن خارج بريطانيا: «إني سعيدة الحظ، فقد انقطعت بي السبل، منذ فبراير، في مقاطعة بافاريا الألمانية!».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى