شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفنحوار

إبراهيم أولحيان للأخبار:   الترجمة عشيقة تزاحم لذة الكتابة

 

تتوازى لدى الكاتب المغربي إبراهيم أولحيان اهتمامات متعددة، لعل أبرزها الاشتغال النقدي في مجال القصة والرواية بالمتابعة والمواكبة والتأليف، إضافة إلى الترجمة التي خصّها بإصدارات مهمة، وأخيرا النقد التشكيلي الذي أكدّ فيه حضوره بالعديد من الإسهامات. هنا نطرح أسئلة عن حواراته المنجزة مع كتّاب، مثل الإسباني خوان غويتيسولو أو المترجم الإنجليزي دنيس جونسون ديفيز، كما تجلّت في كتابه «شرفات متجاورة»… وأخيرا عن ترجمته لـ«التفكير في الرواية المغربية».

 

كيف ترسم لنا بدءا علاقتك بالكاتب الإسباني خوان غويتيسولو نزيل مراكش، والكتابة عنه وعن غيره في كتابك «شرفات متجاورة» في الأدب؟

تعرّفت على خوان غويتيسولو في فبراير 1989، تزامنا مع الندوة الكبرى «الجسد وصورة الآخر» التي نظمتها كلية الآداب بمراكش، قدمني إليه الشاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد وأنا مازلت طالبا في الكلية. بعد ذلك توطدت علاقتي به، بحضوري، مع مجموعة من الأصدقاء، إلى مجلسه اليومي المسائي بساحة جامع الفناء، بمقهى مطيش في الأوّل، وبعد ذلك بمقهى أركانة ومقهى كلاصيي، وفي الأخير مقهى فرنسا. كنت آنذاك قرأت له كتاب «الاستشراق الإسباني» الذي ترجمه كاظم جهاد، والذي صدر عن مجلة الكرمل سنة 1987، وقرأت أيضا روايتين أو ثلاث بالفرنسية وبعض كتاباته الحقوقية والسياسية التي كانت تترجم هنا أو هناك.

الجلسة مع غويتيسولو ممتعة، إلا أنّها تكون خالية تقريبا من الحديث عن الأدب؛ لأنّ جلساءه أغلبهم لا علاقة لهم بالحقل الأدبي والثقافي من جهة، ومن جهة أخرى كان يتحاشى الخوض في ذلك، ويرغب دائما في سماع السلوكات اليومية في مراكش وجامع الفناء على الخصوص. وإذا كان حدث ما لافتا أو مزلزلا في العالم يكون هو شغله الشاغل، مثل القضية الفلسطينية أو حرب البوسنة والهرسك أو اجتياح العراق… كنت أيضا أزوره بمنزله المحاذي لجامع الفناء بحي القنارية درب سيدي بو الفضايل، كان في الأغلب يدعو ثلاثة أشخاص أو أربعة، من المهتمين بالأدب والثقافة لمشاهدة حلقة من حلقات برنامج «قبلة»، الذي كان ينجزه لإحدى قنوات التلفزيون الإسباني، مثل البرنامج الذي أنجزه عن ناس الغيوان أو فلسطين أو الدراويش في تركيا، وقد كان موجودا في عين المكان أثناء التسجيل كل من حضره. وإذا ما كنتُ راغبا في رؤيته خارج هذا السياق كنت أتصل به فيحدد لي موعدا ويستقبلني بحفاوته المعهودة في باحة منزله الأندلسيّ، وهي عادته مع جميع أصدقائه. كان يقدم للأدب المغربي خاصة والعربي عموما خدمة كبيرة، حيث كان يرشح بعض الروايات لدار النشر بإسبانيا لترجمتها، وبما أنّه لا يقرأ العربية كان يكلّف أصدقاءه بقراءتها وإبداء الملاحظات حولها، وحذار أن يفقد فيك الثقة الأدبية لأنّه سيقرأ النص حين ترجمته، لأنّ كل ما يرشحه للترجمة مطالب بوضع تقديم له.

كانت الجلسات الانفرادية معه، رفقة بعض الأصدقاء رائعة، حيث كان ينبّهنا إلى كتّاب مهمين جان جنيه، غونتر غراس، أورهان باموك، عمران المليح، فارغاس يوسا… وإلى الأدب الكلاسيكي وخصوصا دون كيشوط، الذي لا يملّ الحديث عنه وعن ترجماته المتجددة… كانت مساهمتي حول كتاباته مستمرة حيث نشرت عنه ملفا في مجلة نزوى سنة 2001، وشاركت في ندوة عنه في طنجة سنة وفاته 2017، وأجرت معي إذاعة سلطنة عمان حوارا مطولا عنه، وكنّا في اتحاد كتاب المغرب، فرع مراكش، نظمنا له ندوة مهمة في مارس 2003، لكن وجدنا صعوبة في إقناعه بالحضور، إلا أنه وافق في الأخير شريطة أن يكون محورها إنتاجاته لا هو شخصيا، وكانت كلمته في هذه الندوة عن فلسطين، بعيدا عن الأدب. وأنا الآن بصدد إنجاز كتاب عنه ترجمة وكتابة، يركز على تصوراته عن الكتابة والأدب…

أمّا بالنسبة لكتابي «شرفات متجاورة» فقد جمعت فيه ما أنجزته، على امتداد سنوات، شمل جزءا من قراءاتي وترجماتي لمجموعة من الكتاب: بورخيص، غويتيسولو، الخطيبي، تودوروف، كيليطو، بارت، دينيس جونسون ديفيز. ويصعب في هذا المقام التفصيل في ذلك.

 

الأمر ذاته يتعلّق بالمترجم الكبير للأدب العربي الحديث دنيس جونسون ديفيز، الذي جعلك تخصّه بكتاب مهم «دينيس دجونسون ديفيز.. عاشق الأدب العربي»..

حين تعرّفت سنة 2005 بمراكش، على دنيس جونسون ديفيز (1922- 2017)، كان في الثمانينات من عمره، ورغم ذلك كان متيقظ الحواس، ذا ذاكرة قوية، كلّه حماس وتوهج، ولايزال عاكفا على ترجماته. يتحدث عن سنوات بعيدة وكأنّها البارحة، ويعشق خوض النقاش حول الأدب العربي الحديث، مثل شيخ حكيم عليم بالسلالات والأنساب. يتكلّم من داخل النصوص، في سياق كلّ الانعطافات التي شهدها هذا الأدب، الذي لم يكن يعرف عنه الغرب أيّ شيء. لوحده حمل وزر نقله إلى اللغة الإنجليزية ولسنوات طويلة. كانت بيني وبينه لقاءات عديدة، استطعنا أن ننسج من خلالها صداقة أثمرت حوارين نشرتهما في ذلك الوقت؛ الأول سنة 2005 والثاني سنة 2007، وقدمته للجمهور بأحد الأروقة الفنية التي كانت لها قيمة كبيرة، اختفت مع الأسف، وقمنا بعرض مجموعة من الكتب التي ترجمها. كنت أراه باستمرار حين يكون هنا في المغرب، لأنّه يقسّم حياته بين مراكش والقاهرة. كان لدنيس منزل جميل بحي السملالية، زنقة ابن حزم بمراكش، يأتي إليه مرة أو مرتين في السنة، بعد أن يشتد عليه ضغط القاهرة، التي لم يعد قادرا على إيقاعها. لقد كرّس حياته لترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الإنجليزية. أحبّ هذا الأدب، ووجد أن أحسن وسيلة للتعريف به هي ترجمته؛ وقد كان من الأوائل الذين قاموا بهذه المهمة، حيث كانت أول ترجمة له سنة 1947 وهي مختارات قصصية لمحمود تيمور، نشرها على حسابه الخاص. لا أحد آنذاك كان يهتم بالأدب العربي الحديث، وكانت مساهمته ذات أهمية كبيرة في التعريف بهذا الأدب، وفي الوقت نفسه ساير تطوره منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حين وفاته.. كانت محنته كبيرة في البحث عن ناشر لترجماته في غياب أيّ دعم عربي؛ ولولا مجهوداته الشخصية لما تكلّمت كثير من النصوص العربية اللغة الإنجليزية، وحين إقامته بإنجلترا أنشأ مجلة بالعربية «أصوات»، أصدر منها ثمانية أعداد.

لم يترجم دنيس الإبداع العربي فقط، المتمثل على الخصوص في القصة القصيرة والرواية، بل تجاوز ذلك إلى ترجمة النصوص الدينية بمعية صديقه المرحوم الدكتور عز الدين إبراهيم، حيث اشتركا في ترجمة الأحاديث النبوية الشريفة: «الأربعون النووية» و«الأربعون القدسية» و«مختصر الكلم الطيب»، واشتغلا كثيرا في ترجمة معاني القرآن الكريم تحت عنوان «قراءات من القرآن الكريم».                                                                            وكتب قصصا جمعها في كتاب بعنوان «مصير أسير»، صدر سنة (1999)، تدور أحداث أغلب هذه القصص في السودان ومصر وبيروت ودبي… ناهيك عمّا كتبه من كتب للأطفال تمتح من الثقافة العربية الإسلامية، وحكايات محلية من مصر والمغرب والخليج… وأخرى مستمدة من التراث العربي، وهي تفوق خمسين كتابا. وفي سنة 2006 أصدر دنيس جونسون ديفيز كتابا هاما بعنوان «ذكريات في الترجمة»، يحكي فيه عن علاقته بالترجمة لأكثر من ستة عقود، ترجم فيها أكثر من ثلاثين عملا من الأدب العربي المعاصر إلى اللغة الإنجليزية، وتحدث فيه عن كثير من التفاصيل التي عاشها مع المبدعين العرب. ولن أطيل في هذا المضمار، فكتابي «دنيس جونسون ديفيز عاشق الأدب العربي»، الذي ألفته وفاء لصداقته وعطاءاته، يحتوي على الكثير من التفاصيل وقراءات في كتبه.. لكن للأسف الكتاب صدر في مصر سنة 2020، ولم يوزع، بل أكثر من ذلك لم أتوصل من الناشر ولا بنسخة واحدة.

 

قمت بترجمة «التفكير في الرواية المغربية» لعبد الله المدغري العلوي إلى العربية. هلا حدثتنا عن دوافع اختيار هذه الترجمة التي كثيرا ما كنت تقول عنها: «الترجمة عشيقة تزاحم لذة الكتابة»؟

حين قرأت هذا الكتاب بالفرنسية وقت صدوره سنة 2006، لاحظت اختلافه وتفرّده في مجال النقد الروائي بالمغرب، وتبيّن لي أن ترجمته ستسدّ فراغا كبيرا في المكتبة العربية؛ فتواصلت مع سي عبدالله من أجل ترجمته، فرحب بالفكرة، ثم شرعت في الترجمة أواخر سنة 2007. وعنوان الكتاب الأصلي هو: «مظاهر الرواية المغربية.. مقاربة تاريخية، موضوعاتية، جمالية»، والكتاب يشتغل على مرحلة طويلة وأساسية من تاريخ الرواية المغربية؛ ابتداء من 1950 إلى بداية القرن الحادي والعشرين. فكتاب «التفكير في الرواية» هو قراءة في الرواية المغربية، بالمعنى الذي يجعله منشغلا بمنجزها النصي، وبما كان يدور حولها من خطابات سياسية ثقافية تمسّ الأدب واللغة، ومهتم أيضا بالأحداث التاريخية والمجتمعية التي ينخرط فيها الروائي، وهو ما جعل الباحث يؤرخ للرواية المغربية اعتمادا على أحداث هزّت المجتمع المغربي وبصمت تاريخه، انطلاقا من متن روائي يكشف عن مجموعة من الإبدالات جماليا وأسلوبيا وموضوعاتيا..

وبذلك  فهذا الكتاب يؤسس في كثير من محطاته لقراءة تجديدية للأدب المغربي عامة والرواية خاصة – وخير مثال على ذلك القراءة المغايرة لما هو سائد لنص «صندوق العجائب» لأحمد الصفريوي، حيث يدحض الباحث الاتهامات الزائفة التي جعلت منه نصا إثنوغرافيا، مؤكدا، عكس ذلك، على القيمة الجمالية التي يضطلع بها في سياق الأدب المغربي- وهو يفكر في الرواية المغربية انطلاقا من متن روائي مزدوج: المكتوب بالعربية والمكتوب بالفرنسية، ويسائل كثيرا من الآراء والطروحات التي رافقتهما، مثل الأدب ما بعد الكولونيالي والفرنكوفوني، وتأثير مجلة «أنفاس» ومجموعتها على مسار الأدب المغربي الحديث. وينشغل، أيضا، بإبراز الاتجاهات، والموضوعات الجديدة التي برزت في الرواية المغربية (الرواية النسائية، الرواية البور Beur))، الرواية المكتوبة حول المهاجرين السريين)…

ولا بد أن نستحضر المعرفة النقدية الثاوية وراء قراءة الرواية المغربية للمدغري، التي لا تتكشف إلا باستحضار كتاب آخر للباحث، صدر سنة 1989، بعنوان «السرديات.. نظريات وتحليلات تلفظية للحكي»، وهي دراسة أكاديمية، اعتمدت على السرديات المنفتحة على نظرية التلفظ، وارتكزت على جهاز مفاهيمي واسع. وبهذا المعنى فكتاب «التفكير في الرواية» ذو صلة وثيقة بالأسس المعرفية والنقدية التي اشتغل بها الكتاب الأول، إلا أن الباحث، في هذه الدراسة، لا يقدمها ولا يظهرها، وهو يتعمّد ذلك ليتركها تشتغل خلف التحليلات، في لغة بسيطة ومركزة، وعبر قراءات عميقة.

إن ترجمتنا تقدم عملا يشتغل على نصوص سردية وروائية مكتوبة بالفرنسية وبالعربية، وهو بذلك يعتبر أوّل كتاب يقتحم هذه المغامرة، ويفتح أفقا آخر للقارئ العربي، بالاطلاع على نصوص روائية مكتوبة بالفرنسية ذات أهمية قصوى، وولوج عوالمها، والمقارنة بينها وبين تلك المكتوبة بالعربية، لإعادة التفكير فيها.

أمّا بخصوص الترجمة وعلاقتها بالكتابة، فلا أترجم إلا ما يوسّع من دائرة اشتغالي النقدي، ويخدم المجال الذي أعمل فيه. وهذا ينصبّ على الكثيرين الذين يقرؤون بلغات أخرى، لأنهم يدركون مدى أهمية الترجمة في تخصيب الهوية الثقافية.. فالترجمة بهذا المعنى لا تتوقف عند نقل المعلومات والأفكار، من لغة إلى لغة، وإنما تسهم في إغناء اللغة والثقافة المترجم إليها وتزويدها بمصطلحات ومفاهيم وبنيات لغوية، وصيغ أسلوبية جديدة، تجعلها أكثر قدرة على استقبال فكر الآخر، واستنباته في تربتها.. وبالتالي فالترجمة غواية تجعلك تتلذذ بالكلمات وهي تتحول بين أصابعك إلى لغة أخرى، وتوقظ فيك نقل ما فتنك إلى الآخر، لمشاركتك ما سماه رولان بارت بلذة النص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى