أَقْرَشُ من المجبِّرين
تقول العرب «أَقْرَشُ من المجبِّرين» في باب ضرب المثل بالوحدة والتكاتف، وقيل إن أربعة رجال من قريش، وهم أولاد عبد مناف بن قصيّ، أولهم هاشم، ثم عبد شمس، ثم نوفل، ثم المطلب – بنو عبد مناف – سادوا بعد أبيهم، لم يسقط لهم نجم، جبر الله تعالى بهم قريشاً فسمُّوا المجبّرين، وذلك أنهم وفدوا على الملوك بتجاراتهم، فأخذوا منهم لقريش العصم، أخذ لهم هاشم عهداً من ملوك الشام حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الشام وأطراف الروم، وأخذ لهم عبد شمس عهداً من النجاشي الأكبر حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل عهداً من ملوك الفرس حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض فارس والعراق، وأخذ لهم المطلب عهداً من ملوك حمير حتى اختلفوا بذلك السبب إلى بلاد اليمن. قُرَيش: قبيلة سيدنا رسول اللَّه، صلى اللَّه عليه وسلم، أبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر؛ فكلُّ من كان من ولد النضر، فهو قُرَشِيٌّ دون ولدِ كنانة ومَنْ فوقَه، قيل. سُمّوا بِقُرَيْشٍ مشتقّ من الدابة التي ذكرناها التي تَخافُها جميعُ الدوابّ. قال الشاعر: وقُرَيْشٌ هـي التـي تَسْــكُنُ البَحْـ ـر، بها ســُمّيَتْ قُرَيْـــشٌ قُرَيْشــا وقيل: سميت بذلك لتَقَرُّشِها أي تجمُّعِها إلى مكة من حواليها بعد تفرُّقِها في البلاد حين غلب عليها قُصَّي بن كِلاب، وبه سمي قصيٌّ مُجَمِّعاً، وقيل: سميت بقريش بن مَخْلَد بن غالب بن فهر كان صاحب عيرهم فكانوا يقولون: قدِمَت عيرُ قريش وخرجت عير قريش، وقيل: سميت بذلك لتَجْرِها وتكسُّبها وضَرْبِها في البلاد تَبْتَغي الرزق، وقيل: سميت بذلك لأنهم كانوا أَهلَ تجارة ولم يكونوا أَصحابَ ضَرْع وزرْع من قولهم: فلان يَتَقَرَّشُ المالَ أَي يَجْمَعُه، إذا نسَبوا إِلى قُرَيشٍ قالوا: قُرَشِيّ، بحذف الزيادة، وللشاعر إذا اضطر أن يقول قُرَيْشِيّ. فالقَرْشُ لغة: الجمع والكسبُ والضم من ههنا. وقَرَشَ يَقْرِشُ ويَقْرُشُ قَرْشاً، وبه سميت قُرَيش، وتَقَرَّش القوم: تجمَّعوا، والمُقَرِّشةُ السَنةُ المَحْل الشديدة لأن الناس عند المَحْل يجتمعون فتنْضمُّ حواشيهم وقَواصِيهم، والتَّقْرِيشُ: الاكتسابُ؛ قال رؤبة: أُولاك هَبَّشْـتُ لهــم تَهْبِيشـي قَرْضي، وما جَمَّعْتُ من قُرُوشي وقيل: إنما يقال اقْتَرَشَ وتَقَرَّشَ للأهل. يقال: قَرَشَ لأهله وتَقَرَّش واقْتَرَش وهو يَقْرِشُ ويقْرُشُ لعياله ويَقْتَرش أي يكتسب، وقَرَش في مَعِيشته، وتَقَرَّشَ الشيءَ تَقَرُّشاً: أخذه أوّلاً فأوّلاً، وقَرَشَ من الطعام: أصاب منه قليلاً، وأقْرَشَ بالرجل: أخبَره بعُيوبه، وأقْرَشَ به وقَرّشَ: وشى وحَرَّشَ؛ قال الحارث بن حلِّزة: أَيها الناطقُ المُقَرِّشِ عَنَّا عند عمــرو، وهــل لذاك بَقاءُ؟ وقيل: أقْرَشَ به إقْراشاً أي سعى به ووقَعَ فيه.ويقال: واللَّه ما اقْتَرَشْت بك أي ما وَشَيْتُ بك، والمُقَرِّشُ المُحَرِّشُ، وتَقَرَّشَ عن الشيء: تنزّه عنه، قال عَدِيّ بن الرِّقَاع يمدح الوليد بن عبد الملك: غَلَبَ المَسـامِيحَ الوليدُ سَـماحةً، وكَفى قُرَيشَ المُعْضِلاتِ وسـادها وإِذا نَشَــرْت له الثنــاءَ، وجَدْتَــه وَرِثَ المَكـارِمَ طُرْفَهــــا وتِلادَهــا.
أَدَقُّ مِنْ خَيْطِ باطِلٍ
هذا المثل فيه قولان عند العرب: أحدهما أنه الهَبَاء يكون في ضَوْء الشمس فيدخل من الكَوَّة في البيت، والثاني أنه الْخَيْطُ الذي يخرج من فم العنكبوت، ويسميه الصبيان مُخَاط الشيطان، وهذا القول أجود، وقال الجوهري: خيط باطل، ولعاب الشمس، ومخاط الشيطان، واحدٌ، وكان لقب مروان بن الحكم خيط باطل، وذلك أنه كان طويلا مضطرباً، فلقب به لدقته، وفيه يقول الشاعر:
لَحَا اللَه قَوْماً مَلَّكُوا خَيْطَ باطلٍ/عَلَى الناسِ يُعْطِي مَنْ يَشَاء ويَمْنَعُ
والطويل أيضاً يلقب بظل النعامة، كما يلقب بخيط باطل.
حَلَّقَتْ بِهِ عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ
يضرب لمن أو لما يُئس منه. فالعَنْقَاء: طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم، وأغرب: أي صار غريباً، وإنما وُصِف هذا الطائر بالمُغْرِب لبعده عن الناس، ولم يؤنثُوا صفته لأن العنقاء اسمٌ يقع على الذكر والأنثى كالدابة والحية، ويقال: عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ على الصفة ومُغْرِبِ على الإضافة… طاَرتْ بِهِمِ الْعَنْقَاءُ: قال الخليل: سميت عنقاء لأنه كان في عُنُقها بياض كالطَّوْق، ويقال: لطولٍ في عنقها، قال ابن الكلبي: كان لأهل الرس نبي يقال له: حَنْظَلة بن صَفْوَان، وكان بأرضهم جبل يقال له دَمْخ مَصْعَدُه في السماء مِيل، وكانت تَنْتَابُه طائرة كأعظم ما يكون لها عنق طويل، من أحسن الطير، فيها من كل لون، وكانت تَقَعُ منتصبة، فكانت تكون على ذلك الجبل تنقَضُّ على الطير فتأكله، فجاعت ذاتَ يوم وأَعْوَزَتِ الطير فانقضَّتْ على صبي فذهبت به، فسميت: “عَنْقَاء مُغْرِب” بأنها تغرب كل ما أخذته ثم إنها انقضَّتْ على جارية فضَمَّتها إلى جناحين لها صغيرين ثم طارت بها، فشكَوْا ذلك إلى نبيهم، فقال: اللهم خُذْهَا، واقْطَعْ نَسْلَها، وسَلطْ عليها آفة، فأصابتها صاعقة فاحترقت، فضربتها العربُ مَثَلاً في أشعارها.
وفي مفردات اللغة: وعَنْقَاءُ مُغْرِبٌ وُصِفَ بذلك لأنهُ يقالُ كان طَيراً تَنَأوَلَ جَارِيَةً فأغْرَبِ بها، يقالُ عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ وعَنْقَاءُ مُغْرِبِ بالإضافَةِ.
وردت أيضا في أشعار العرب، فقال بعضهم:
ولو لا سلَيْمَانُ الخَلِيفَةُ حَلَّقَتْ به/ من يد الحَجّاج عَنْقاءُ مُغْرِبُ
وقال آخر:
إِذا اسْتُبْهلَتْ أَو فَضَّها العَبْدُ حَلَّقَتْ/ بسَرْبك يوْم الوِرْدِ عَنْقاءُ مُغْرِب
وقال آخر:
إذا ما ابنُ عبدِ اللَّهِ خَلَّى مكانه/ فقَدْ حَلَّقَتْ بالجُودِ عَنْقاءُ مُغْرِبُ
وقال الهذلي:
فلو أنّ أُمّي لم تلدْني لحلَّقتْ بِيَ/ المُغْرِبُ العنقاءُ عند أخِي كلْبِ
أنا أسدة من بني أسد
قال خالد الحذاء: خطبت امرأة من بني أسد، فجئت لأنظر إليها وبيني وبينها ستار يشف، فدعت بجفنة (قدر كبير) مملوءة ثريدا مكللة باللحم، فأتت على آخرها، وأتت بإناء لبنا حتى كفأته على وجهها، ثم قالت: يا جارية! ارفعي الستار، فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا هي شابة جميلة، فقالت: يا عبدالله! أنا أسدة من بني أسد، وهذا مطعمي ومشربي، فإن أحببت أن تتقدم فافعل، فقلت: أستخير الله وأنظر، فخرجت ولم أعد.
أنا الغريق فما خوفي من البلل
هذا المثل مأخوذ من قصيدة شاعر العرب أبي الطيب المتنبي، وفيها:
وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ/ مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَلِ
مَتى تَزُرْ قَومَ مَن تَهوى زِيارَتَها/لا يُتحِفوكَ بِغَيرِ البيضِ وَالأَسَلِ
والهَجرُ أَقتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ/أَنا الغَريقُ فَما خَوفي مِنَ البَلَلِ
ومناسبة القصيدة أن المتنبي عاد إلى سيف الدولة بعد غياب دام تسعة عشر سنة، ولما دخل عليه يسأله سيف الدولة عن حاله، فقال المتنبي: رأيت الموت عندك أحب إلي من الحياة عند غيرك. فقال بل يطيل الله في عمرك. ودعا له، ثم ركب أبو الطيب المتنبي وسار معه خلق كبير إلى منزله، وأتبعه سيف الدولة بالهدايا. فكتب له قصيدة يمدحه فيها:
أَجابَ دَمعي وَما الداعي سِوى طَلَلِ/دَعا فَلَبّاهُ قَبلَ الرَكبِ وَالإِبِلِ
ظَلِلتُ بَينَ أُصَيحابي أُكَفكِفُهُ/وَظَلَّ يَسفَحُ بَينَ العُذرِ وَالعَذَلِ
أَشكو النَوى وَلَهُم مِن عَبرَتي عَجَبٌ/كَذاكَ كُنتُ وَما أَشكو سِوى الكَلَلِ
وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ/مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَلِ
مَتى تَزُر قَومَ مَن تَهوى زِيارَتَها/لا يُتحِفوكَ بِغَيرِ البيضِ وَالأَسَلِ
وَالهَجرُ أَقتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ/أَنا الغَريقُ فَما خَوفي مِنَ البَلَلِ.