شوف تشوف

الرأي

أين سارق المجوهرات؟

  جاء السفير يحيى بن سليمان إلى مكاتب «العلم» في شارع علال بن عبد الله في الرباط، على غير العادة. لم يستسغ مقالا نشر بالصفحة الأولى بعنوان: «الحزب المظلوم»، تحدث حينها عن أشد المناورات التي حيكت لإسقاط حزب الاستقلال من المعادلة، إبان فترة الاستعمار والسنوات الأولى لاستقلال البلاد.
عارض بمنطق الثقة في المستقبل أن يُنعت حزبه بالمظلوم، كونه لا يتوسل الإنصاف، بل يخوض معاركه بكل متطلباتها، فكان أقرب إلى افتتاحيات عبد الكريم غلاب التي كانت تؤرق دوائر القرار. لذلك دافع بن سليمان بقوة عن أحقية الاستقلال في انتزاع الاعتراف بمكانته التاريخية والسياسية. بدا ذلك الصباح الصيفي منفعلا، وهدأ الزملاء من غضبه، لأن معركة الانتخابات للعام 1977 كانت في بدايتها.
ظل على رأيه، محاولا إقناع زملاء في التحرير أن صيغة الحزب المظلوم لا تناسب المرحلة، ورأى أن البرنامج الانتخابي الذي اختزلته وثيقة أطلق عليها عنوان: «من نحن وماذا نريد؟» أقرب إلى تمثل أهداف حزب علال الفاسي، فيما حرص خلفه محمد بوستة، عبر المهرجانات التي رأسها في العديد من المدن المغربية، على تبديد نزعة المظلومية، وقال في أكثر من مناسبة إن من يدافع عن الديمقراطية الحقة ليس مظلوما، ولن يزيده الإمعان في بسط نفوذ الظلم إلا تشبثا بمواقفه.
كان بوستة خطيبا يمزج فقرات نبراته الحادة بطرافة مراكشية. فهو القائل في البرلمان، تعقيبا على ترقية وزير الداخلية إدريس البصري إلى رتبة وزير دولة: «ماقدوش الفيل زادوه الفيلة». والمثل في مجمله يعرض إلى مظاهر الترهيب التي تمنع من قول الحقيقة، فقد تجلد سكان إحدى القرى بالصبر وعقدوا العزم على مصارحة الحاكم بأن الفيل يعبث بمزروعاتهم، وحين ووجهوا بالسؤال ماذا تريدون؟ ردوا بأنهم يرأفون لحالة الفيل الذي يحتاج إلى فيلة أنثى تؤنسه في وحدته.
تابعت رفقته مهرجانات خطابية، بدأت من مراكش وانتهت في أصيلة، مرورا بورزازات وقلعة مكونة، ثم بني ملال وقصبة تادلة، وأكملت الدائرة عبر شفشاون وتطوان، وصولا إلى «قرية الصيادين» في أصيلة. وعند كل محطة كانت رسائله منتقاة على قدر ما يصله من أنباء ومعطيات حول سير العملية الانتخابية. يصعد لهجته حين يتطلب الموقف صرامة حازمة، ثم يخففها حين تلوح في الأفق بوادر تفهم، وفي كل الحالات يحتفظ بزمام المبادرة بين يديه.
على عكس امحمد الدويري المندفع أو عبد الكريم غلاب المتشدد، كان بوستة واقعيا، لا يعير كثير اهتمام للتفاصيل، ورأيته في أكثر من اجتماع حزبي، يترك الآخرين يفصحون عن أشكال مظلومياتهم، وعندما يفرغون كل ما في سلة الغضب، يتجه لملئها بمقدار أكبر من التفاؤل. ثم أدركت بعد مرور الزمن أن الرجل شغوف بالتاريخ يستقرئه. والشاهد أن رفقته والسفير يحيى بن سليمان كانت ولا تزال أقرب إلى رحلات يقومان بها معا إلى التاريخ الذي قال الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل، إن زيارته تختلف عن المتاحف، كونها تذكي روابط الصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
بين من يصنع التاريخ ومن يكتبه ومن يتملى بطلعته، اختار بوستة ألا يكون على الحياد. ما سعى إلى منصب أو جاه، ولكن المناصب سعت نحوه. وحين أيقن بأن الأدوار لا تستمر من دون خلف، انزوى بعيدا يراقب التطورات هنا وهناك، يستعين بالانكفاء على دروس التاريخ. ومن غير السفير يحيى بن سليمان يصاحبه في زياراته المتجددة إلى مكامن التاريخ الذي كتب بأقلام آخرين؟
صادف أني تمنيت على الكاتب محمد بلمليح، الذي كان شغوفا بجمع نوادر الكتب والمخطوطات والمراجع التاريخية، أن يحتفظ لي بكتاب عن رسام فرنسي شهير أقام بعض الوقت في مناطق الصحراء الشرقية، فأخبرني أن السفير يحيى بن سليمان سبق إلى اقتناء أكثر من كتاب يعرض إلى مراحل تاريخية، خصوصا قبل وقوع المغرب تحت الاحتلال. وعبر الصديق الراحل عن اعتقاده بأن محمد بوستة يشارك رفيقه بن سليمان في الاهتمام بمراجع مماثلة، تخص كتابات الرحالة والمستشرقين الفرنسيين والبريطانيين الذين سجلوا انطباعات عن المغرب في تلك المرحلة. غير أن الكاتب الروائي عبد المجيد بن جلون، الذي كان يلاحق ما يكتب عن المغرب، وتحديدا باللغة الإنجليزية، أمتع المكتبة المغربية بترجمات رائعة لأكثر الكتابات الأدبية والتوثيقية عن مغرب ما قبل القرن العشرين.
رغب بلمليح في معاودة نشر تلك الكتابات، وأجرى المزيد من الاتصالات لتأمين حقوق التأليف والترجمة، لولا أن الموت فاجأه في منتصف الطريق، وترك مكتبته التي كان مزهوا بنفائسها في «سيتي قيس» يتيمة، بعد أن أمضى فترة طويلة في جمع نفائس الكتب واللوحات. وقال لي مرة إنه لو كان في المغرب أمثال بوستة وبن سليمان لكان العقل السياسي والثقافي بخير، إلا أن حظ الثقافة لدى رجالات السياسة لم يكن يميل دائما إلى رد الاعتبار للمسألة الثقافية.
نشأت الزعامات الحزبية والسياسية في بيوت ثقافية، توزعت بين جامعة القرويين والسوربون والأزهر وفلسطين، وكان الجامع بينها أن ممارسي السياسة علماء ومفكرين وعقلاء، يختلفون في المواقف الحزبية ويلتقون في الهموم الثقافية بتشعباتها وروافدها المختلفة.
وعندما كان البعض يتباهى بالثروة وأسهم الشركات ومساحات الضيعات ورصيد البنوك، كان سياسيون حقيقيون ينقبون في الكتب ويخلدون إلى رفقتها التي لا تسبب الضجر.
كانت المكتبات في البيوت تحتل أرفع الأمكنة، ولا تكتمل زينتها من الأثاث والديكور من دون مكتبات، ثم انضافت إليها هواية اقتناء اللوحات والتحف، وإن اعتبرها البعض مظهر ثراء ووجاهة.
أختم مع قارئ مولع بالبحث عن نوادر الكتب، وجد نفسه يوما في مخفر شرطة يواجه تهمة السرقة الموصوفة. سئل أين أخفى المجوهرات فرد بأنه يحتفظ بها في بيته. طلبت إليه قوائم شركائه في العملية، فقال إنه وحيد. اقتيد إلى بيته لمعاينة المجوهرات، فقدم إليه مجموعة كتب قال إنها أغلى مجوهراته. كل ما في القصة أنه اقتنى كتابا من «جوطية باب الأحد» كان ضمن مسروقات تعرضت لها فيلا شخصية بارزة. فقد كان على قناعة بأن الكتب أثمن من المجوهرات، فيما كانت الأبحاث الأمنية تتوخى سرقة أثاث ومجوهرات تزين الأيادي والصدور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى