أين اليسار؟
يصعب اليوم الحديث عن شيء اسمه اليسار كقوة سياسية واجتماعية وثقافية شكلت لعقود رقما صعبا داخل المشهد السياسي، فما يوجد أمامنا هو كائن هلامي مفارق يوجد في كل مكان وفي اللامكان، يعارض بدون معنى ويساهم في الحكم بدون إنجاز، يحمل المطرقة والمنجيل ويدعم الليبرالية والتيار المحافظ، حتى أضحى قوة بدون هوية لا لون لها ولا طعم لها ولا شكل لها تتخذ الشكل الذي توضع فيه.
وحتى لا تفهم الكلمات على غير حقيقتها، فلا أحد بإمكانه أن يشكك في النضال التاريخي لليساريين ولا أن يزايد عليهم، فقد تحملوا من الأذى الكثير واستمات رموزه النزهاء في الدفاع عن مبادئهم وأفكارهم ومواقفهم وساهموا في الانتقال السلس للسلطة ببلدنا مع تجربة حكومة عبد الرحمان اليوسفي، لكن ما يعيشه اليسار اليوم من موت بطيء مؤلم وله تأثيرات سلبية على التوازنات السياسية، التي لطالما قامت بها القوى اليسارية.
ما يوجد بين ظهرانينا اليوم هو خليط هجين من يسار النضال الهامشي العقيم، غارق في الطوباوية التي لا تتناسب مع الحجم الشعبي، وبقايا اليسار الانتهازي الذي يرى أنه حان الأوان للحصول على مقابل التضحيات التي قدمها، واليسار الراديكالي الذي يعيش داخل قوقعة إيديولوجية مغلقة ويحلم بإقامة النظام الجمهوري الذي لا يوجد سوى في مخيلته، ويسار يمكن أن يتحالف مع المؤمن والشيطان ليبقى حيا وسط أزمات تنظيمية وسياسية ألقت به خارج الحسابات.
ويبدو أن أطياف اليسار باتت مقتنعة بالقدر السياسي الذي جعل منها كائنات سياسية هجينة، تتبع الأحداث ولا تصنعها. لقد تحول من فاعل سياسي يحسب له ألف حساب، إلى ما يشبه الفاعل الهلامي الغائب بشكل شبه تام عن صناعة المشهد السياسي، وحتى حينما يحضر فهو يحضر كرقم مكمل يمكن الاستغناء عن خدماته بدون أدنى مشكل.
واليوم يوجد اليسار بأطيافه وألوانه أمام مفترق الطرق، فإما الاعتراف بمحدودية مساهمته وضعف قوته، وبالتالي الإقدام على مراجعة الذات وتحديد العوامل الفكرية والسياسية التي أدت إلى شل فاعليته وتبديد مجده السياسي، صحيح هذا طريق صعب ومكلف وطويل، لكنه مضمون النتائج في عودة العافية للجسم اليساري ولو بعد حين، وإما مواصلة سياسة دفن الرأس في الرمل والعيش تحت أضواء الغير، وذلك لن يؤدي في النهاية إلا إلى الانتكاسة الحتمية ومزيد من فقدان الشرعية والمشروعية، التي ستقوده في نهاية المطاف إلى عزلة واقعية وفعلية.