شوف تشوف

الرأي

أول مواجهة لي مع سرطان الموثة (البروستات)

خالص جلبي
كانت أول مواجهة لي لسرطان البروستات في الحي الذي علقت فيه الإعلان عن عملي: الدكتور خالص جلبي: داخلية نسائية أطفال. في الواقع كان كل من يتخرج من كلية الطب ويفرح به أهله، يفتحون له غرفة في بيتهم. يضعون فيها سرير فحص وسماعة وميزان حرارة وجهاز قياس ضغط، وإذا كان متطورا أضاف ميزانا لوزن الأطفال.
كانت هذه الدكاكين المتناثرة في كل مكان لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي تذكر بأطباء ماو تسي تونغ في الصين، الذي أطلق عليهم طاغية الصين الأطباء الحفاة، فأرسل أشباه وأنصاف الأطباء من الجهلة، يعسون في ظلمات الريف، كمن يمد يده في الغابات فلا يعرف أي أفعى تلسعه.
في يوم رأيت إعلانا على عيادة أحدهم، وهو يعرف بنفسه في خمسة أسطر؛ فهو خبير في أمراض الدرق والبواسير، في السعال وشقوق الشرج، في المرارة والجنب، في القلب والتامور، فهيم في علاج عرق النسا والاستشفاء بالطب البديل، يفهم في حموضات المعدة والتهابات المهبل والطرق البولية. الخ الخ…
وقفت دقائق وأنا أتأمل اللافتة القبيحة المليئة بالدجل المرخص، وقلت لا غرابة في ظل البعث؛ فالدجل والكذب والفجور هو غذاء يومي، في ظل النظام الكوري عفوا السوري. وتذكرت ألمانيا وكيف يعلق الطبيب على مدخل عيادته ثلاث كلمات، طبيب باطنية أو جراح.
كنت جديد التخرج من كلية الطب، حينما استدعاني جاري النجار لفحص أخيه. انتبهوا، كانت الشكوى وجعا في الظهر!
أجمل ما في الطب هو (الفحص الشامل) لكل الجسم، فهو وحدة مترابطة. في الحديث مثل المؤمنين مثل الجسد الواحد. في مونتريال كسر أصبع في قدمي اليسرى، مما أعاقني عن المشي شهرين. فحصت الرجل: الصدر، القلب، الأطراف، النبض، التنفس. جس البطن للتأكد من ضخامة كبد وطحال. تفقد العقد اللمفاوية إن كانت مشبوهة في أي زاوية من عنق ومغبن، أخيرا لا شيء ملفت للنظر، سوى أن وجهه ممتقع باهت يدل على فقر دم، يقرأ بشكل واضح في ملتحمة العين. قلت له: عفوا لابد من اختتام فحصي لك بفحص مزعج بعض الشيء. سأل: ما هو؟ قلت له: عفوا الفحص الشرجي للتأكد من البروستات عندك، يسمونها في كلية الطب (غدة الموثة).
حين أدخلت أصبعي في الحلقة وصعدت لما خلف المثانة حيث الصلب، تذكروا هذه الكلمة جيدا، حيث البروستات وملحقاتها من الحويصلين المنويين وغدتي كوبر وهي في ظهر المثانة مستندة بظهرها على ظهر ابن آدم.
دارت أصبعي حول الموثة لاكتشفها قطعة من حجر، إنه مؤشر درامي لسرطان قد أكل الغدة وما حولها. الآن فهمت لماذا يشكو الرجل من آلام الظهر، إنها بالتأكيد انتشارات الورم إلى فقرات الظهر. ولسوف تبدو واضحة في الفحص الشعاعي البسيط أو المعقد، مثل التصوير الطبقي المحوري أو الطنين المغناطيسي.
حين راسلت صديقي دكتور الأمراض البولية (رضوان) في أمريكا عن مشكلة رفع الشكاوى في وجه الأطباء، أرسل إلي بالفاكس أكثر من ثلاثين ورقة، يقول فيها: نجوت من سبعة ملايين دولار تعويض! لم أفهم عليه. قال: فحصت مريضا لشبهة ورم البروستات عنده، لم يكن ثمة شيء بالفحص الشرجي والعام، ولكن لحسن الحظ أجريت له فحص السكانير (CT- Scan) للتأكد من خلو جسمه من أي انتقالات ورمية.
الرجل جاء بعد ستة أشهر وهو مصاب بسرطان البروستات ويدعي أنني أهملت التشخيص، فنجوت بالصورة الموثقة عن خلوه من المرض الخبيث.
حاليا ابتكر الأطباء طريقة جميلة لحدس بداية قرع جرس الإنذار أن صاحبه ضربه المرض، عن طريق عينة الدم إنه فحص هورمون البروستات (PSA)، وأي رقم بدأ يقفز فوق الأربعة صعودا بدون توقف؛ فهو مؤشر إنذار أن يسارع صاحب العلاقة للكشف عن ورم بدأ يتسرب ويضرب بالخفاء.
صديقي الدكتور (حسن) في آخن روى لي قصة عن رجل انتبه إلى أن الرقم عنده أصبح في حيطان العشرة، ليكتشف الورم؛ فيسارع إلى العملية، كي تقشر غدة البروستات وتستأصل، وينجو صاحبها، وليس مثل صاحبنا التركماني الذي فحصته أنا وقد افترسه المرض.
إضافة لما ذكرت فقد لفت نظري نقاش في هذا المضمار، بين داعية سلفي وآخر مبشر مسيحي، حول الآية الموجودة في سورة «الطارق»، وكلاهما غير طبيب يخوض في مياه لا يعرف عمقها فيَغرَق ويُغْرِق، وهو ماجاء في القرآن عن الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب؛ فقد جر المبشر المسيحي الداعية السلفي إلى فخ، حيث استند إلى حديث يشرح الحمل والمني بأن ماء الرجل وماء المرأة هما من يقرر جنس الجنين. مع أن الآية لا تحكي هذا، بل نرى إشارة في سورة «النجم» إلى أن من يحدد الجنس هي النطفة (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى)، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء من طبيعة الكروموسومات المختلفة (XY) المحمولة في الحيوان المنوي، في الوقت الذي لا تحمل البويضة إلا نوعا واحدا محددا من الحمض الوراثي (X).
وهنا يجب فهم أمرين أن القرآن دقيق البناء اللفظي؛ فإن تعارض معه حديث، أن يغض النظر عن الحديث. فآية سورة «طارق» تقول عن المني الذي يتدفق إنه من مكان عميق في الظهر، وهو مكان اتكاء غدة البروستات على الصلب، مع الترائب التي هي ملحقات الجهاز التناسلي (الحويصلات المنوية وغدتي كوبر). وهذا طبعا لم يكن معروفا لعلماء التفسير، الذين لا يعرفون التفصيلات التشريحية في جسم الإنسان. والأمر الثاني أن كلا من الداعية السلفي والمبشر المسيحي كانا عليهما أن ينسحبا من المواجهة المزعجة، ويتركا بحث مثل هذه المواضيع للأطباء؛ فلا ينبئك مثل خبير، ثم إن مهمة النبوات هي تعارف البشر وتلاقيهم، في جو من الحوار الهادئ والتسامح العميق. ولكن أتباع الديانات يحيون الحرب جذعة، والأنبياء يرمقونهم بحزن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى