بقدر ما تدور رحى الحرب بأوكرانيا، فإن الصراع يحتدم على ألمانيا، في استعادة مشؤومة للأجواء التي سادت أوروبا، قبل الحرب العالمية الثانية. وكان واضحا، عشية بدء موسكو ما تسميها العملية الخاصة، تردد برلين في الالتحاق ببقية المعسكر الغربي، وحرص الرئيسين الأمريكي بايدن والروسي بوتين، كل من جهته، على جذب المستشار الألماني، شولتز، إلى طرفه. وفي زيارته إلى واشنطن في السابع من فبراير من العام الماضي، تجنب المستشار الألماني أي تعهد معلن بأن بلاده ستلغي شراكتها مع روسيا في مشروع «نورد ستريم 2» لنقل الغاز إلى أراضيها، فيما كان الضغط الأمريكي في ذروته على برلين بشأن اتخاذ موقف سريع ورادع لموسكو في هذا الصدد، بل ذهب بايدن أبعد بتأكيده من طرف واحد أن مشروع «نورد ستريم» سيتوقف بطريقة أو أخرى.
كان هذا هو التباين الأول بين واشنطن وبرلين، فالأولى تضغط والثانية تقاوم التورط أكثر، وتسعى إلى إنتاج مساحة أمان تخصها إزاء الحرب. جاءت المرة الثانية بعد نحو عام من الأولى، وقبيل مرور عام على الحرب بأوكرانيا، وكانت بشأن تزويد الغرب أوكرانيا بالدبابات، فقد ضغطت واشنطن على برلين لتزويد كييف بدبابات «ليوبارد»، لكن ألمانيا رفضت واشترطت تزويد واشنطن كييف بدبابات «أبرامز» قبل ذلك، وهو ما يؤكد أن ألمانيا تقاوم على طريقتها انخراطا مباشرا وكاملا في حرب سعى مستشارها إلى إقناع بوتين بعدم خوضها.
ويعود الحذر الألماني إلى خشية برلين من تكرار تجربتها الدموية بأوروبا، والقطع مع التورط العسكري الذي انتهى بها إلى هزيمة مذلة في الحرب العالمية الثانية، لكن آليات التورط، وهي تنشط وتشتد سرعة دواليبها، قد توصل برلين إلى ما تخشاه وتسعى لتجنبه، فمن نتائج الحرب الأوكرانية الكبرى بأوروبا قرار المستشار أولاف شولتز، في يونيو الماضي، تخصيص مائة مليار أورو لإعادة تسليح جيش بلاده، وتعهده بأن تمتلك ألمانيا أكبر جيش نظامي لدول حلف شمال الأطلسي بأوروبا، وهذه انعطافة حادة في السياسات الألمانية بعد الحرب الثانية، حيث بنت برلين سياساتها على النمو الاقتصادي وحسب، وعدم التورط في أي نشاط عسكري إلا في حدود دنيا، وفي حالة الاضطرار ومن دون أن تكون في الواجهة.
ولكن ما ترغب فيه ألمانيا في سبيله إلى الانقلاب إلى ضده، فهي تُدفع بإلحاح من واشنطن إلى دور أكبر في الحرب الأوكرانية، إذ لا يكفي أن تشارك بدعم كييف، بل أن تشارك كييف في جهود الحرب، وكلما تقدمت خطوة نحو ذلك بعد تردد تُطالَب بأخرى فأخرى، وهي ما تبدو استراتيجية أمريكية للدفع ببرلين إلى الواجهة، وربما لاحقا إلى الاحتكام للسلاح دفاعا عن وجودها.
يحدُث هذا فيما تؤكد البيانات والدراسات أن ألمانيا هي الخاسر الأكبر من الحرب الأوكرانية، بعد كييف طبعا، وتقدر خسائرها بنحو 160 مليار أورو مع نهاية 2023، ناهيك عن اضطرارها إلى تغيير وظيفتها ودورها في أوروبا، بالتوجه نحو العسكرة التي ستجعلها فعلا الأقوى في العالم بعد الولايات المتحدة خلال سنوات قليلة مقبلة.
أهي ألمانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية تعود مجددا؟ وما هي عواقب ذلك على أوروبا؟ سؤالان لا تنفك المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عن التذكير بهما في معرض تهديداتها المبطنة لألمانيا، فالنتيجة معروفة من التاريخ، كما قالت مرة متهكمة، وتقصد هزيمة ألمانيا مجددا.
زياد بركات