أوروبا وحرب أوكرانيا
أحمد يوسف أحمد
لا شك في أن للاستقالة القياسية في سرعتها لرئيسة الوزراء البريطانية دلالاتُها بالنسبة إلى السياسة البريطانية وتعقيداتها، التي بدت واضحة منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتفاقمت بعد تفجر الحرب بأوكرانيا. لكن المرء لا يمكنه أن يفصل هذا الحدث عن سياقه الأوروبي، فمنذ بدأت الحرب بدأت أوروبا تشهد تداعيات واضحة، ترتبت على السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة تجاه روسيا وتحالفت معها الدول الأوروبية، رغم أن بعض هذه السياسات تتعارض مع مصالحها، بسبب الاعتماد المتبادل الكثيف بين روسيا والدول الأوروبية، سيما في مجال الطاقة. وكان مبرر القبول الأوروبي بهذه السياسات، هو أن دعم أوكرانيا يتعلق بحماية قيم تهون أمامها المصالح الاقتصادية المباشرة. غير أن تفاقم الأضرار التي لحقت بالدول الأوروبية بسبب السياسات المتبعة ضد روسيا، وعلى رأسها العقوبات غير المسبوقة التي فُرضت على موسكو، بدأ يحدِث تداعيات مهمة بالساحة الأوروبية نتيجة تفاقم التضخم وأزمة الطاقة، ومن ثم زيادة صعوبات الحياة اليومية على نحو غير مسبوق. وقد ظهرت هذه التداعيات أولا في شكل احتجاجات شعبية واسعة بالعديد من البلدان الأوروبية، رفض بعضها صراحة أن تكون نصرة أوكرانيا على حساب المصالح الوطنية. غير أن التداعيات الأهم ظهرت في نتائج الانتخابات التي أجريت بأوروبا، عقب بدء العملية العسكرية الروسية، وكلها أشارت إما إلى تثبيت اليمين المتطرف لموقعه بالسلطة كما في حالة الانتخابات المجرية في أبريل الماضي، أو الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أجريت بعدها في الشهر نفسه وعززت فيها ماري لوبان، مرشحة «الجبهة الوطنية»، مكانتها بتحقيقها نسبة 41 في المائة من الأصوات مقابل 58.5 في المائة لماكرون، ثم فاز حزبها بـ89 مقعدا في الانتخابات التشريعية التي أجريت في يونيو، مقابل 8 مقاعد فقط في انتخابات 2017. ثم شهد شتنبر الماضي تطورين بالغي الأهمية، بفوز تحالف أقصى اليمين في الانتخابات السويدية وتشكيله الحكومةَ. وبعدها فاز التحالف اليميني، وعلى رأسه حزب «أخوة إيطاليا» بزعامة جيورجيا ميلوني، التي شكلت الحكومة الإيطالية الجديدة.
وليس صعود الأحزاب اليمينية في أوروبا بالظاهرة الجديدة، ولا شك في أنها تلقت دفعة بسبب تدفق موجات الهجرة إلى أوروبا، نتيجة لعدم الاستقرار السياسي والحروب الأهلية والفاقة الاقتصادية بالعديد من الدول الإفريقية والآسيوية، ومنها دول عربية عانت شعوبها من تداعيات ما سُمي «الربيع العربي». ومن الواضح أن الأزمات الأوروبية الخانقة التي ترتبت على الحرب بأوكرانيا، وسبل المواجهة الغربية لها مثلت عاملا إضافيا لتقوية اليمين المتشدد الذي تتميز أحزابه بنزعتها القومية الواضحة، بما في ذلك عدم الحماس للاتحاد الأوروبي وسياساته. وسوف يكون لهذه المواقف تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على خريطة الصراع بأوكرانيا، فهناك أولا أن بعض فصائل اليمين المتشدد تجاهر بانتقاد السياسات الأوروبية تجاه الحرب، كما في حالتي المجر وفرنسا وإلى حد ما إيطاليا. وقد يكون الأهم هو التأثيرات غير المباشرة، بمعنى أن النزعة القومية لهذه الأحزاب لن تجعلها تقبل أي سياسات ضارة بالمصالح الوطنية لبلدانها لمجرد أنها تدعم أوكرانيا، وهو ما يعني ظهور متغير جديد يشارك في التأثير على المواقف الأوروبية تجاه الحرب. وهكذا تتوالى المستجدات في هذا الصراع الخطير دون وجود بادرة عن ظهور نهج رشيد في إدارتها، مع أن أوان الرشادة قد حان بعد أن تأكد أن الحرب لن تكون قصيرة، وأنها محملة بإمكانات تصعيد خطير.