أوباما والإسلام في خطبة الوداع.. حصيلة السبع العجاف
في 24 فبراير 2009، خلال خطبة باراك أوباما الأولى أمام الاجتماع المشترك للكونغرس (التي لم تكن فنياً عن حال الاتحاد، بالنظر إلى أنّه كان قد تقلّد المنصب لتوّه)؛ لم يأتِ أوباما على ذكر الإسلام أو المسلمين، وذكر «إسرائيل وجيرانها» بصدد «السعي إلى التقدّم نحو سلام آمن ودائم». بعد سبع سنوات، قبل أيام، ألقى أوباما خطبة (عن حال الاتحاد هذه المرّة)، توقف فيها عند نزعة الترهيب من الإسلام لدى بعض الساسة الأمريكيين (وليس دونالد ترامب وحده، للتذكير)؛ كما عفّ عن ذكر إسرائيل، مقابل إشارة إلى الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني.
هذه الملاحظة، الأولى، قد تبدو شكلية من حيث المبدأ، ولا تمسّ ثوابت البيت الأبيض بصدد إسرائيل والعالم العربي والإسلام والمسلمين؛ إلا إذا وُضعت في سياقات أعرض تخصّ ولايتَيْ أوباما، وطبيعة المغيرات التي شهدتها، وما الذي حرّك التغيير أو استلزم الثوابت. ومن جانب آخر، صحيح أنّ هذه الخطب تتوخى المشهد الداخلي الأمريكي في المقام الأوّل، ولا تقارب السياسة الخارجية والعالم ما وراء الأطلسي إلا لماماً؛ فإنها، مع ذلك، تظلّ جردة حساب عن قوّة الاتحاد ومنعته إزاء الأخطار المختلفة، وخاصة حين يكون الرئيس في ختام ولايته الثانية، عند موعده الأخير مع الشعب الأمريكي والسجلّ التاريخي.
كثيرة هي المنعطفات الكبرى التي تحكمت في متغيرات وثوابت إدارة أوباما، وهي ليست ضئيلة الأثر في النطاقَين الداخلي الأمريكي والعالمي الكوني، من جهة؛ كما أنّ أوباما لا يغادر رئاستَيه وقد أغلق أياً منها تماماً، أو كانت له شخصياً فاعلية عالية في معالجتها. الحقائق تمنحه أثراً ملموساً، والبعض يراه تاريخياً، في عكس الركود الاقتصادي الأمريكي، ونقله إلى وضعية ازدهار مضطرد تجلى على نحو خاص في هبوط معدلات البطالة؛ فضلاً عن إصلاح نظام التأمين الصحي، وقوانين الهجرة، وقانون العقوبات، وتنظيم حيازة السلاح. ثمة، مع ذلك، مظانّ كثيرة تُفرغ هذه الإصلاحات من بعض فضائلها، وأحياناً تقلب أغراضها رأساً على عقب؛ كما حين يتفاخر أوباما بأنّ معدّلات ضحايا الأسلحة الفردية قد هبطت (لكنّ أعداد ضحايا استخدام الشرطة للسلاح ضدّ المواطنين قد ارتفعت إلى 986 شخصاً خلال العام المنصرم، حسب إحصائيات الـ»واشنطن بوست»).
غير أنّ خطبة الوداع هذه لم تخلُ من تفاخر شخصي، حول منجزات أخرى على صعيد السياسة الخارجية، في مجالات صارت أثيرة ـ والكثير منها مكروراً، مستعاداً ـ لدى رؤساء أمريكا منذ11/9: عظمة أمريكا، عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً، حماية الشعب الأمريكي، كأولوية قصوى؛ الحرب على الإرهاب، التي تتشابه في المحتوى وإنْ اختلفت الوسائل؛ مفهوم القيادة الأمريكية للعالم، وتنتهي إلى دور الشرطي الكوني مهما أنكرها هذا الرئيس أو اعتنقها ذاك؛ وأخيراً، وليس آخراً: «داعش»، بوصفها الملفّ الأسخن الذي صار واجهة معظم ملفات انتفاضات «الربيع العربي». وما خلا صياغات مختلفة هنا وهناك، وهذا أو ذاك من مستويات البراعة الخطابية، لم يكن في خطبة الوداع جديد لامع يُدخل أوّل رئيس أمريكي أسود البشرة إلى حوليات البلاغة الرئاسية الأمريكية!
لافتة، إلى هذا، تلك الفقرة التي نددت بالرُهاب من الإسلام والمسلمين، والتي يمكن أن تدخل التاريخ بوصفها الأطول في هذا الموضوع، بل وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين؛ وذلك على امتداد سجلّ الخطب الرئاسية الأمريكية، منذ أن ألقى جورج واشنطن خطبته الأولى سنة 1790. قال أوباما: «..لهذا نحن نحتاج إلى رفض أية سياسة تستهدف الناس بسبب عرق أو دين. هذه ليست مسألة انضباط سياسي. إنها مسألة إدراك ما يجعلنا أقوياء. العالم يحترمنا ليس بسبب ترسانتنا وحدها، بل يحترمنا لتنوّعنا وانفتاحنا وطريقة احترامنا لكل العقائد. قداسته، البابا فرنسيس، أخبر هذا المجمع، من المنبر الذي أقف عليه الليلة، أنّ محاكاة الطغاة والمجرمين في الكراهية والعنف هي الطريقة الأفضل للحلول محلهم. حين يهين الساسة المسلمين، وحين تُنتهك حرمة مسجد، أو يُهان طفل، هذا لا يجعلنا أكثر أماناً. وهذا ليس باطن الأمر. إنه خطأ فقط. إنه ينتقص منّا في أعين العالم. إنه يجعل تحقيق أهدافنا أصعب. وإنه يخون هويتنا كبلد».
وهذه فقرة تعيدنا إلى ربيع 2009، حين ألقى أوباما خطبته الأولى في بلد مسلم، أمام البرلمان التركي؛ فشدّد على البُعد الثقافي (الديني والحضاري والتاريخي، في معانٍ أخرى) وراء خطوته تلك، بصفة خاصة، ثمّ أبرز الخلفية الستراتيجية والجيو ـ سياسية لعلاقة الغرب بالعالم المسلم، وبالإسلام عموماً. يومها قال، في محور أوّل يخصّ الغرب عموماً: «ما يربط تركيا بأوروبا هو أكثر من مجرّد جسر على البوسفور. تجمع بينكم قرون من التاريخ المشترك، والثقافة، والتجارة. وأوروبا لا تضعف، بل تكسب، من تعددية العرق والتراث والعقيدة. وعضوية تركيا سوف توسّع وتقوّي الأساس الأوروبي من جديد». وقال، في محور ثانٍ يذكّر بأنّ أمريكا ليست في حرب مع الإسلام: «سوف نصغي بانتباه، وسوف نجسر سوء التفاهم، وسنسعى إلى أرضية مشتركة. وسوف نلتزم بالاحترام، حتى عندما لا نتفق. ولسوف نعبّر عن تقديرنا العميق للعقيدة الإسلامية، التي فعلت الكثير في صياغة العالم على مرّ القرون، بما في ذلك داخل بلدي. لقد اغتنت الولايات المتحدة بالأمريكيين المسلمين. والعديد من الأمريكيين الآخرين ضمّوا مسلمين في عائلاتهم، أو سبق لهم العيش في بلد ذي أغلبية مسلمة، وأعرف هذا لأنني واحد منهم».
والفقرة، إياها، تعيد الأذهان إلى مناسبة أخرى وضعت أوباما على محكّ استشراف علاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي، أي خطبة الرئيس الأمريكي في جامعة القاهرة، بعد قرابة شهرين من مخاطبة البرلمان التركي. يومها بدأ أوباما من دَيْن مسلم في عنق الأمريكيين: أنّ أوّل اعتراف رسمي بحكومة الولايات المتحدة الأمريكية لم يصدر عن حكومة أوروبية مسيحية، أو شرقية غير مسلمة، بل كان السبق فيه قد انعقد لحكومة المغرب، المسلمة! كذلك شاء أوباما تأطير هذا الملفّ على نحو أكثر راهنية، وارتباطاً بالحاضر، فاعتبر أنّ علاقة أمريكا بالإسلام ليست مجرّد مظاهر ثقافية ـ دينية، لغوية أو رمضانية أو بروتوكولية، لأنّ الإسلام جزء من أمريكا، بدلالة وجود سبعة ملايين مسلم، وأكثر من 1200 مسجد هنا وهناك في مختلف الولايات.
وفي جانب كبير من فقرات خطابه، بدا أوباما شديد الحرص على إعطاء صورة مخالفة، أو عكسية نقائضية أحياناً، للخطاب الرسمي الذي اعتمدته الإدارة السابقة، تجاه مسألة العلاقات الأمريكية مع العالم المسلم عموماً، ومسائل الشرق الأوسط بصفة خاصة. طيّ هذا الخيار كمنت رغبة خفية في توبيخ سلفه جورج بوش الابن، ونائبه ديك شيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد، وعقائد المحافظين الجدد، أو حتى صمويل هنتنغتون وأطروحته حول صدام الحضارات، من جهة أولى؛ وفي الإيحاء، من جهة ثانية، بأنّ هذه الإدارة تختلف، أو سوف تخالف، ذلك الماضي الحزين، لاستشراف مستقبل أكثر سعادة، أو أقلّ حزناً.
فما الحصيلة، في نظر المسلمين، بين أوباما 2009 و2016؛ بمعزل عن الأقوال والفقرات الطوال، وعلى أرض الواقع والأفعال؟ سبع عجاف، بل كارثيات، كما ستقول الغالبية الساحقة من أبناء البلدان الإسلامية، أغلب الظنّ؛ أياً كانت أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم، وبصرف النظر عن نكباتهم. ولا عجب في هذه الخلاصة، إذْ كيف أمكن أن تكون سوى ذلك!