حين كتبت عنك للمرة الأولى كان الأمر بالنسبة لي ضربا من العبث، لم أكن أدري أصلا أأنا أكتب عنك أم عن شخوص أخرى، تداخل الأحداث في النص، تضارب الأفكار في مخيلتي، والانسياب الأبجدي الذي لم يسبق أن حدث معي في أي كتابة أخرى… كل هذه الأشياء أخافتني، ما إن أنتهي من جزء حتى تستجديني الأوراق كي أواصل، وتنسل الكائنات الفضولية التي تسمى «الدموع» من عيني كي تحثني في بلادة على الاسترسال. كنت أظن أن ما أنا بصدد كتابته-على الرغم من أنه أهم ما يحدث في حياتي الآن- هو أتفه ما يمكن أن يقرأه الناس لي، توقعت رد فعل تهكميا، توقعت سخرية، توقعت أن أنعت بـ «المستغانمية» توقعت كل شيء باستثناء أن ينال إعجاب النظارة وتصفيقهم. هالني جدا إقبال الجميع على قراءة ما مر منه هذا الضلع الأعوج، أخافتني بشدة هذه القابلية التي تملكها شعوبنا على تقبل الوجع واحتضانه، وأفزعتني بصدق كل الرسائل التي تلقيتها منوهة، ومشجعة ومطالبة بالمزيد.
في بادئ الأمر لم أكن أدري السبب الذي يدفعني لتدوين مصابي، تهت بين أبجديتي لدرجة استعصت معها الإجابة عن السؤال المحوري الذي خالجني: أأكتب لأني نسيتك، أم لأني لا أقوى على تجاوزك؟ أأكتب كي أنساك، أم لأستدعي أسباب الذكرى؟ لكني الآن على الأقل صرت أملك سببا ولو شكليا للمواصلة، صرت أملك مشجبا أعلق عليه خطيئتي، صرت أملك جوابا إن ثار صديق في وجهي كي يطلب مني التوقف عن الكتابة لرجل غبي، صرت أستطيع الرد عليه بشيء آخر غير البكاء كي أخبره أن القراء ينتظرون، رغم أنه في العمق لا أحد ينتظر.. غيري!
مشكلتي معك هي أني منذ البداية كنت أبحث عن شخص آخر كي يتحمل عني هذا الذنب، شخص آخر يبوء وحده بخطيئة المشاعر التي حملتها لك طواعية، فبقدر ما أحببتك كرهت نفسي لأنك آخر شخص كنت أنا بعنفواني وعنادي سأستطيع أن أواجه العالم به، أهنتني كثيرا دون أن تدري، أهنتني أمام نفسي مرتين، مرة حين قبلت أن أعانقك وأنت عائد من حضن أخرى، ومرة حين جبنت شجاعتك عن اختياري، ثم في آخر المطاف أهنتني أمام كل من وقفت في وجوههم وأنا أحضن آثامك، وأرفض أيديهم الممتدة لانتشالي من هذا الجحيم. فأين قوامتك علي أيها الذكر؟
نتفق أنا وأنت أن الكتابة هي تلك الخطيئة التي نمارسها لنشفى ونرغم الأوراق على حمل الوهن بدلا منا، وحده الكاتب يستطيع أن يعرف إلى أي مدى باستطاعة الورق أن يحتمل مخاض الحبر، ووحدي أنا أعلم كم من مرة سقط قلبي من علو الفرح، عدد المرات التي انزوت فيها روحي وحيدة تحاول ترقيع ثقوبها، وحدي أنا أحس ما معنى أن يمسح الحزن على جبيني ويأخذني من يدي إلى وجهة لا أدريها، وكيف تصمت امرأة فقدت فمها وقلبها ذات ثرثرة.
أنت الرجل الذي كان يشربني كل ليلة كقلق أخير، وأنا المرأة التي كنت أتأرجح بين أغنية ودمعتين ثم أتساقط بين ذراعيك في ضعف، صرت اليوم أقابلك صدفة، نسلم بكل برود، ونرحل مخلفين طاولة بكماء لم تفهم شيئا.
خبأتك في قلبي مدة طويلة كنقطة ضوء في عتمة..
قطعت بك دروب القصيدة..
نسيت كيف أنفضك عن أنفاسي..
ثم بعد كل هذا لازلت أبحث عن سبب شرعي يمكنني من الكتابة عنك أو إليك، مت فيك طويلا، وعشت فيك أكثر وطوال المدتين كنت أبحث عن ظهر أحتمي به منك ومن كتاباتي. فأي مرض هذا الذي قد يصيب قلبا بكامل الدهشة ويحرمه متعة الأبجدية؟
اليوم صباح جديد يطل من النافذة وأنا أكتب جزءا آخر مني ومنك، لم أنم بعد، كنت أنتظر الشفق كي أتطلع مع أول الشروق إلى ابن أحلامي الذي قتلناه معا بعد أن انتظرناه طويلا، هو الذنب الوحيد الذي أصافحه دوما بكل العنفوان ولم أبحث عمن يحمله بدلي، هي الخطيئة الوحيدة التي أدفع ثمنها كل يوم عن طيب خاطر، ويكفي أن امرأة مثلي اعتادت الثرثرة صارت تمشي بين الناس بقلب أبكم!