أنغولا وموزمبيق وما جاورهما !
تكون العدوى مطلوبة ومستحبة، في حال ارتبطت بقيم ومظاهر حضارية، كما في نشر الديمقراطية وروح المنافسة والتباري في إنجاز ما ينفع الناس. وتستحيل إلى فيروسات معدية، عندما تتجسد في نكران الجميل والإيقاع بين الأشخاص. فبالأحرى إن استهدفت العلاقات بين الدول.
ربما كان على القائل بأن شر البلية ما يضحك أن يضيف إلى الحكمة المأثورة بأن شرها ما يحزن. فقد غرست القوى الاستعمارية ما يكفي من بذور الشقاق والفرقة بين مستعمراتها السابقة، ولم ترحل إلا وقد اعترتها نشوة أن مواسم حصاد ما زرعته ستكون في شكل صراعات على الحدود ونزاعات في الهوية، وتوترات عرقية وطائفية ولغوية.
ذاك وجه للعدوى، أما الوجوه الأخرى، ففي الإمكان مصادفتها في سلوكات ومواقف. ليس أبعدها أن الدول الإفريقية التي حظيت بدعم ومساندة المغرب في سعيها إلى الاستقلال والتحرر، هي ذاتها التي ناصبته العداء، يوم اعتقد أن روح الوحدة الإفريقية أكثر متانة من تصرفات نزقة. ومادام أقرب الأمثلة عن الجحود والتنكر صدر من الجار الشرقي للمغرب، فلن يضير في شيء أن تقلد دول ورؤساء ما دأبت عليه. لأنها كانت ولا تزال مثالا حيا في العبث بالأواصر والروابط والقيم والتطلعات.
مبعث الاستهلال أن وزير الخارجية المغربي محمد بوستة تساءل يوما أمام مؤتمر إفريقي عن خلفيات العداوة بين دول مثل أنغولا وموزمبيق ومدغشقر وبنين وبلاده. الأكيد أنه لم يرغب في أجوبة سياسية بل أخلاقية.
كان يقال أن البعد الجغرافي يحرر العلاقات بين الدول، خصوصا تلك التي لا حول لها ولا قوة في التأثير على التوازنات. واطمأنت كيانات إلى أن بعد المسافات يفيد أحيانا، بينما لاذت أخرى إلى استغلاله لإشاعة البلبلة وإذكاء الأحقاد والتوترات.
ماذا تعرف هذه الدول عن المغرب، عدا ما لُقنته. حتى أن وزيرة سابقة للخارجية في ساوتومي برانسيبي عجزت أمام منتظم إفريقي أبجديات الصغار حول ما يحد المغرب شمالا وشرقا وجنوبا وغربا. ومثلها نسي مسؤول أنغولي ما قدمه المغرب من دعم ومؤازرة للمستعمرات البرتغالية السابقة، واستضاف المغرب أول مؤتمر لحركات التحرير في كل من الرأس الأخضر وغينيا بيساو وأنغولا وساوتومي وموزمبيق. ولو كان الراحل عبد الرحيم بوعبيد على قيد الحياة لقدم شهادته في هذا النطاق، حيث كانت الأدوار متبادلة ومتوازية بين الدعم الرسمي والمساندة الشعبية.
كان شمال إفريقيا يعني حضورا واحدا هو المغرب، باعتبار أن استقلاله شكل منعطفا حاسما في تاريخ القارة الإفريقية. فقد تلاشت الحدود والحواجز، ومن لم يكن نصيبه دعما بالسلاح والمال مثل حركة تحرير أنغولا والموزمبيق والمؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، كان أقوى في المحافل الدولية. فمن يذكر أن في السنوات الأولى للاستقلال كانت هناك وزارة تهتم بالشؤون الإفريقية، من غير الخارجية ومجالات التعاون. لكن الحدود ستتحول إلى حواجز ومطبات.
يحكى أن العقيد معمر القذافي طلب إلى الرئيس الجزائري هواري بومدين أن يسمح لطائرات عسكرية ليبية بعبور أجواء بلاده لدعم تمرد وقع في المغرب. رفض بومدين الاستجابة لنزوته بذريعة أن تسهيل تحليق الطائرات الليبية، يعتبر بمثابة مشاركة مبيتة، وها أن الدعم الذي كان يقدمه المغرب لحركات التحرير الإفريقية تحول إلى أداة للإجهاز على ثوابت ومكاسب بعض دولها. فالمنطلق هنا يفضح نوايا أصحابه، وإن كان موقف الرئيس الجزائري خضع لحسابات المرحلة.
بيد أن بعد المسافة لها امتداد آخر، وبعد أزيد من عقد على ذلك الحدث، تطورت العلاقات الليبية – المغربية على غير المتوقع. وعزا مسؤولون من الجانبين إبرام اتفاق وجدة الذي حمل اسم «الاتحاد العربي الإفريقي» إلى كون البعد الجغرافي قلل من مستويات الخلافات السياسية، وكان البعد العربي والإفريقي من وراء المبادرة التي أقبرت بعد فترة وجيزة، إنها كشفت الإمكانات الهائلة المتاحة أمام قيام تحالف عربي – إفريقي، لولا أن الأمور نحت في اتجاه معاكس.
من يتأمل الخرائط، قد يدهش لواقع أن المسافة الفاصلة بين المغرب والدول الإفريقية المناوئة لشرعية الحقوق المغربية في الصحراء شاسعة. وزادتها المواقف العدائية تباعدا. لكن التحليل النفسي يصلح لتشخيص الظواهر السياسية أيضا. فالدول أكانت وازنة أو ضعيفة، مؤثرة أو مستلبة، نامية أو فاشلة تخضع بدورها للأهواء والمزايدات مثل الأفراد. وكما انبرت الجزائر لرد الجميل إلى المغرب الذي دعمها في كفاحها من أجل الاستقلال، من خلال المعاكسة ومساندة حركة انفصالية كانت وراء مدها بالأوكسجين الاصطناعي، لجأت دول تدور في فلكها إلى نهج الأسلوب ذاته..
هكذا تنكرت أنغولا وموزمبيق وساوتومي برانسيبي وغيرها إلى صورة التضامن المشرق الذي جسده المغرب في دعم حركات التحرير الإفريقية. لا مجال إذن للبحث عن مصادر الخلافات السياسية، ومن طباع العاجزين أن يبصقوا في الإناء الذي منه يأكلون. كل المشكل أن الخزائن الجزائرية أصبحت فارغة، لكن الذين اغتنوا منها لازالوا يجترون ما بلعوه في زمن الرخاء الذي سخر لغير مصلحة الشعب الجزائري والشعوب الإفريقية الصديقة.